كثيراً ما ينتابني القلق حين يردني اتصال، أو رسالة من نفسٍ مُثقلة بالهموم والأحزان، تبحث عن أُذنٍ أو قلبٍ لغريب يسمع قصتها، دون أن يحكم عليها جزافاً، ربما لأن كل ما تحتاجه مجرد البوح، والتعبير عن أوجاعها، فمنذ سنوات وبريدي ينزف جروح الحكايات التي يحملها، ويبتهج مع قليل من الأفراح التي كان يزفها بعضهم، لتجدد من زرع الأمل، لتستمر حياة الإنسان رغم الأوجاع والهزائم وخيبات الأمل، بعض الناس حين تصل الحروف إلى قلوبهم وتلمسها، يتوقعون بشكل لا إرادي أن يجدوا حلاً لدى كاتبها، وأحياناً مجرد الاستماع يبدد لهم جزءاً من المشكلة. خرجتُ من المكتب انتظرها أمام المصعد الرابع كما طلبت مني في اتصالها، وما هي إلا ثوانٍ حتى اقتربت مني امرأة جذابة متوسطة الطول، تحمل في يدها حاملاً كرتونياً يحوي كوبين من قهوة ال «موكا»، هكذا ترجمها أنفي الذي لا يخطئ مشتقات القهوة، ابتسمت.. فحييتُها بإيماءة وابتسامة عريضة بالمقابل، إذ إن الابتسامة اللغة العالمية الوحيدة التي تُدخل أي شخص لقلبي قبل أن يفتح فمه، وهي مفتاحي السحري للنفاذ لقلوب الآخرين أيضاً، فُتح باب المصعد فدخلنا في آن واحد، وما إن أُغلِق حتى بادرت بالمصافحة قائلة: «أنا منى، صاحبة الرسالة»، حاولت إخفاء توترها، فمدت يدها الأخرى وناولتني كوب القهوة، ضغطت على زر الطابق التاسع، حيث اتفقنا أن نجلس لأستمع إليها وأعطيها رأيي الذي الزمتني به، على الرغم من أني أوضحت بأنه احتمال لن يروق لها، وحين اقتربنا من إحدى الغُرف بدأت دقات قلبي تتسارع، وباغتني ألم في البطن نفس الألم الذي كان يهاجمني قبل دخول قاعة الامتحان، جَلستَ.. ودخلت مباشرة في الموضوع: منذ 17 سنة أحبني رجل لا يحمل أياً من مواصفات شريك العمر الذي رسمته في خيالي، كان على قدر مرضٍ من الطيبة والحنان لدرجة استطاع فيها أن يلمس مشاعري، فأحببته بالمقابل، عرض علي الزواج، ترددت في بداية الأمر، حين بدأت أدخل في تفاصيل حياته وعلمت بأن له تجربة سابقة، كانت نتيجتها 8 أطفال، من زوجة سابقة، كان يؤكد دائماً بأنه قد انفصل عنها عاطفياً قبل حتى الانفصال الفعلي، أخذ الأمر أكثر من سنة إلى أن اقتنعت، بعد أن أصر والدي بأن الرجل لا يعيبه شيء، تزوجنا وفي شهر العسل، بدأت أشعر بالانزعاج، حين رأيته يتواصل مع زوجته السابقة عن طريق الرسائل، فلم أشُك به، فنحن يا سيدتي نشأنا في مجتمع لا يُشكك في كلمة الرجل بل يعتبرها مقدسة، وبررت بأنه ربما يطمئن على أطفاله، ما أزعجني حقاً تكرار الأمر وتجاهله لي مبكراً من أول أسبوع، غاب فترة أثناء حملي في الطفل الأول، بسبب إصابة أحد أبنائه في حادث سيارة، فحين ذهبت إلى المستشفى للاطمئنان عليه، صدمني منظره عند موقف السيارات وهو متأبط لذراع زوجته السابقة، وبطنها يشير إلى أن هناك طفلاً على وشك الولادة، شعرت بصفعة وإهانة، كانت كفيلة لإيقاظي من غيبوبة الحب، ومع ذلك بررت ربما تكون قد تزوجت بآخر مثله، أو هكذا كنت أتمنى، فيما بعد أدركت بأنني لم أكن سوى جزء من لحظة غضب عصفت به، كان يطمح فيها بتجديد محبة زوجته له بعد أن تجاهلته فترة، والمؤلم أكثر حين كان يؤكد ذلك أفراد من أسرته دون كياسة بشكل مباشر في كل مرة نلتقي، لم تكن هذه الحياة التي اخترتها، ولم أوافق على تحويرها بهذه الصورة، بل تم استغلال مشاعري فقط لأنها كانت صادقة، في كل مرة أشعر بأنني وُضعت تحت الأمر الواقع، أشعر بالغثيان والغضب، من واقع مملوء بالكذب غلفهُ بالحب الذي صدقت، لينتصر في النهاية ويحقق غايته، وبحجم تلك المحبة كان الألم، حاولت أكثر من مرة أن أنفصل لأخرج من تلك الحياة المضطربة التي لا تخُصني، ولكن باءت محاولاتي بالفشل، بسبب رفضه المستمر بذريعة الحب، فبالله عليكِ كيف أُصدق من أساء للحب بكذبه في البداية، بأنه سيكون سبباً مقنعاً للاستمرار في النهاية؟!. وقفت فجأة فمسحتُ على كتِفيها، فضمتني لتخرج من صدرها تنهيدة نفذت إلى أضلُعي، فابتسمت وأستاذنت وغادرت مُسرعة، لم أُوقفها لأنني أعلم بأنها وصلت لنهاية البوح، وبداية موجة من البكاء بعيداً لبدء حياة جديدة. حين يطرق الحب قلب بعض الرجال، يزداد أنانية، وتَملكاً بشكل غريب، فبعضهم حتى لو كان قميصه رثاً ممزقاً، يناضل من أجل الاحتفاظ به، خوفاً من أن يأخذه آخر، ولكن في الحب رسالة تتكرر فمهما تنوع الخداع باسمه، لابدَّ للأرواح الطاهرة النقية أن تستيقظ من غيبوبتها، لتُثبت مدى قِصر حبل الكذب في الحب.. وإن طال!