المحاضرة الرابعة جاءت تحت عنوان (محترفون وهواة)، وفيها يلمح سعيد إلى أن العلاقة ما بين المثقفين والمؤسسات ديناميكية ودائمة التحول ومفاجئة في تعقيداتها أحيانًا. في كتابه (معلمون وكتاب ومشاهير: مثقفو فرنسا الحديثة)، يقول ريجيس دوبريه إن المثقفين ما بين عامي 1880 – 1930 كانوا مرتبطين بالسوربون ارتباطًا وثيقًا، ولكن ذلك الارتباط أخذ في الانحلال بعد عام 1930 إثر نشوء دور النشر الكبيرة وسحبها البساط من السوربون. كما أن وسائل الإعلام قد حطمت انغلاق النخبة الفكرية التقليدية مع ما تعتمده من معايير ومقياس للقيم. لقد درج المثقفون، أو الغالبية العظمى منهم، على الارتباط بالمؤسسات التي يستمدون منها القوة والسلطة. وهم بطبيعة الحال يتأثرون بتقدم هذه المؤسسات أو تقهقرها وصعودها أو هبوطها. في ضوء هذا الارتباط ما بين المثقف والمؤسسة، هل يمكن أن يكون هناك وجود للمثقف الحر المستقل من الولاءات والارتباطات التي تعيق تقدمه وتكبح انطلاقه وتؤطر تفكيره، وربما تدجنه ليقول في النهاية ما تريد هي قوله لا ما يريد هو؟ ثم كيف يتم النظر إلى المثقف: كفرد أم كعضو في جماعة، خصوصًا في ضوء نشوء جماعات المثقفين المتعددة أو الأنتلجنسيا من مديرين أو أساتذة جامعيين وصحافيين وخبراء حكوميين ومستشارين؟ ألا يهدد انتماؤه إلى جماعة أو مؤسسة يكسب منها قوته فرديته وصوته الشخصي؟ يقول سعيد إنه لا بد من النظر إلى هذه المسألة بمزيج من الواقعية والمثالية فلا يمكن أن يُخون المثقفون لمجرد أنهم يعملون في جامعة ما أو صحيفة ما. في الوقت ذاته، لا يمكن النظر إليهم باعتبارهم فرسانًا بلغوا حدود الكمال وقبضوا على جوهر الحقيقة. المهم في الأمر أن يكون صوت المثقف مسموعًا وأن يثير النقاشات والجدل. الإذعان الكلي والمعارضة الكلية كلاهما مرفوضان، ولا ينبغي الركون إلى أحدهما. من جهة أخرى يشير كتاب المثقف اليساري الأمريكي رسل جاكوبي ( آخر المثقفين) إلى اختفاء المثقف غير الأكاديمي وخلو الساحة لمجموعة من الأكاديميين المتخشبين ذوي الرطانة الخاصة بهم والذين لا يهدفون من كتاباتهم إلى إحداث التغيير الاجتماعي بل نيل الترقية والارتقاء في السلك الأكاديمي. من جانبه، يرى سعيد إن كون المرء مثقفًا لا يتعارض بالضرورة مع كونه أكاديميًا أو موسيقيًا، ويورد أمثلة لأكاديميين كان لهم دور مؤثر خارج الإطار الأكاديمي مثل إيريك هوبزباوم وإي. بي. ثومبسون في إنجلترا وهايدن وايت في أمريكا. ويمكننا بالطبع أن نضيف اسم سعيد نفسه إلى هذه القائمة. ومما لا شك فيه أن صورة المثقف قد تغيرت فلم يعد ذلك البوهيمي أو فيلسوف المقهى إذ أصبح يقدم نفسه بطريقة وصورة مختلفتين، وحسب ما يراه سعيد فإن ما يهدد المثقف اليوم، سواء أكان غربيًا أم غير غربي، ليس الأكاديمية أو الصحافة ودور النشر الكبرى ولكن ما يسميه الاحترافية أو نزعة الاحتراف، ويعني بها أن تقوم بدورك كمثقف كعمل تكسب منه قوتك ساعيًا إلى التواؤم مع المعايير السائدة ومحاولاً نيل رضا أولئك الذين يمسكون في أيديهم بمقاليد السلطة. إن المثقف لا يعيش في عزلة عن مجتمعه فهو محاط بجماعة مهنية ما ونظام اجتماعي يطلب ويتوقع منه أن يعبر عن مشكلاته وقضاياه وهمومه وفق ما يريده هو. إنه بعبارة أخرى، يحاول أن يقولب المثقف ويصوغه على مثاله. وفي سبيل تحقيق ذلك يمارس المجتمع أنواعًا مختلفة من الضغوط التي ليست مقتصرة على مجتمع ما دون آخر. ومن تلك الضغوط مبدأ التخصص؛ بمعنى حصر المثقف داخل إطار تخصصه الأكاديمي دون أن يخرج عنه أو عليه بحيث ينتهي به الأمر مؤديًا لما يتوقعه الآخرون منه فحسب. هنالك أيضا هيمنة فكرة الخبير المُجاز ذي المعرفة الواسعة في عالم ما بعد الحرب، ولا يتأتى للمثقف أن يصل إلى هذه المرحلة إلا بتفويض وإقرار من السلطات المعنية التي تحدد له نوعية اللغة التي يتحدث بها ملزمة إياه بعدم الخروج على الأطر المحددة سلفًا. كمقابل للنزعة الاحترافية يقترح سعيد ما يسميه نزعة الهواية التي يعرفها بأنها «نشاط يضطرم بالتعلق العاطفي والاهتمام، لا بالعائد المادي والتخصص الأناني الضيق». ويرى من الحتمي على المثقف اليوم أن يكون هاويًا طارحًا للتساؤلات ومثيرًا للجدل والنقاش، متحدياً غير مهادن للسلطة، مجابهاً الجمهور لا بما يشبع رغباته بل بما يثير قلقه ويدفعه إلى البحث والتساؤل والتفكير.