إدانة أفعال داعش الهمجية لا تعني إدانة الأفكار التي يحملها تنظيم داعش؛ لأن النقد يذهب للتطبيق دون الأفكار التي أبرزت ذلك التطبيق، الأفعال ثمرةُ الأفكار، وإدانة الأفعال الخبيثة دون النظر في مسبباتها لا يسمنُ ولا يغني من جوع، وحينما تكون شجرةُ الزقوم ذات الطعام القاتل والرائحة الكريهة مثمرةً فبالطبع سيكون طلعُها كأنه رؤوسُ الشياطين. أعتقد أن موقف النخب السياسية والفكرية في العالم الإسلامي تجاه أفعال داعش، وقبلها أفعال حركات القاعدة وبقية الجماعات الحركية التكفيرية المسلحة وغير المسلحة، موقفٌ سلبي أو بأقل تقدير يمكنُ أن نقول عنه: إنه موقفٌ ليس بمستوى المعالجة والطموح، لأن تلك النخب تُعنى بمعالجة الأفعال والوقائع الوقتية ؛ لكنها في الوقت نفسه تنسى (أو تتناسى أو تتجاهل) معالجة الجذور والأفكار بجدية. السؤال: لماذا نعيش التطرف منذ أزمنةٍ بعيدة، وندينه ونمقته ونتبرأُ منه، وندعو للوسطية ونذكر النصوص الواردة في نبذ الغلو والتطرف؛ لكننا في الوقت نفسه لم نستطع صناعة الوسطية والاعتدال اللذين نرجوهما ونطمح إليهما، فما أن ينتهي مسمى جماعة الهجرة والتكفير حتى نفاجأ بالجماعة الإسلامية المسلحة، ثم القاعدة والنصرة، وأخيراً داعش التي لا تؤمن إلا بالذبح وقطعِ للرؤوس. لماذا هذا التناسل؟ إذن المشكلة ليست في ظاهرة داعش كعصابةٍ وحدها، إذ سبقتها عصاباتٌ مثلها، فلا يمكن أن نختزل ونعزل داعش عن مثيلاتها في العصر القديم والحديث. هذا التناسل الفكري المكتسب ثقافياً وسياسياً له أسبابٌ وجذور عديدةٌ منها: -1 تقديس التاريخ: لنكن واقعيين صادقين مع أنفسنا، المشكلة التي يعاني منها العقل العربي والإسلامي في دراساته التاريخية أنه يعتمد منهج الاحتفال والتوقير في تناولاته التاريخية، وذلك في مقابل منهج التحليل والتفسير والنقد، لقد درسنا تاريخ الحجاج بن يوسف الثقفي -مثلاً- الظالم الطاغي المستبدُّ السفَّاك السفَّاح للدماء، قاصف الكعبة بالمنجنيق وقاتل الصحابي عبدالله بن الزبير داخل الحرم ومن ثمَّ قطعَ رأسه وصلبَ جسده منكساً، لقد درسنا ظاهرة الحجاج وتناسينا ذلك كله بمجرد كونه حافظاً للقرآن ومهتماً بنقط حروف المصحف وإعجامه وكتابته، وبمجرد كونه متردداً على حلقات أئمة العلم من الصحابة والتابعين، بل تعودنا على تبرئته هو وغيره من أخطائهم والدفاع عنهم، بأن ما حصل من القتل والسفك والظلم إنما هو عبارة عن خلافات المجتهدين المتروك أمر الحكم على أفعالهم لله سبحانه، لقد تعودنا على ذكر المناقب وترك المآخذ. إن النقد العلمي للتراث التاريخي ولما حصل في الفتوحات – سلباً وإيجاباً- كفيلٌ بوأد فكر عصابة داعش وكل العصابات المماثلة لها. -2 تقديس الأئمة من الفقهاء واعتبار اجتهاداتهم نهائية وصائبة، ومحاربة أية محاولة لتحليل هذه الاجتهادات بوصفها اجتهادات بشر تعبر عن مواقف فكرية اجتماعية ينبع بعضها عن صدقٍ واجتهاد، وينبعُ بعضها الآخر عن مصالح مذهبية وتوجهات آيدولوجية. -3 من المشكلات الراسخة في دراساتنا للمذاهب والتيارات والفرق المعاصرة أننا ندرسها كفرق ضالة أو منحرفة دون رغبةٍ في إظهار حسن نيات تلك الفرق والمذاهب ودون النظر-غالباً- في منطلقاتها العلمية، مما يولد كرهاً وحقداً دفيناً على كل مختلفٍ معنا، ألا نتذكرُ في الأزمنة الخوالي كيف تمَّ تصفية عديد من الشخصيات المذهبية بمجرد اختلافها فكرياً؛ علماً أن منطلقاتها من النص الشرعي قرآناً وسنةً بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها، وبغض النظر عن أخطائها في تناول النصوص، ألا نتذكر معبد بن خالد الجهني الذي قتله الحجاج بن يوسف سنة (80) من الهجرة بسبب رأيه في مسألة القدر علماً أنه من تلاميذ أبي ذر والحسن البصري ومعاوية، وقد وُثِّقَ في كتاب: «التهذيب» لابن حجر رغم رميه بالبدعة، وكذلك غيلان الدمشقي الذي قُبِضَ عليه سنة (99) من الهجرة، وأمر الخليفة هشام بن عبدالملك بقتله وصلبه بسبب رأيه في مسألة القدر، وكذا الجعد بن درهم المقتول سنة (120) للهجرة. ليست المشكلة في وجود مثل تلك الظواهر الإقصائية والقتل في الأزمنة الخوالي لمجرد الاختلاف في المذهب والرأي؛ إنما تكمن الإشكالية في كيفية تعاطينا التاريخي التحليلي العلمي مع تلك الظواهر، بحيث يتم التسليم لها وتمجيد القَتَلَة والقتل والإقصاء لمجرد الاختلاف المذهبي في تناول النصوص، هنا يكمن الخلل ويظهر الهرجُ (القتل) والمرج، ثم بعد أن تقعَ الفأسُ على الرأس يقبلُ بعضُهم على بعضٍ، يقتسمون ويحلفون ثم يتلاومون. وختاماً: من الأقوال المأثورة الشهيرة عن الشيخ أمين الخولي – رحمه الله- : «أول التجديد قتل القديم بحثاً» لا فائدة من التجديد دون فحص القديم فحصاً نقدياً تحليلياً وليس فحصاً تبجيلياً توقيرياً، فالنقد التحليلي يزيل عن غير المقدس القداسة التي اكتسبها جراء التكرار والترديد.