تحاط بلادُنا بدولٍ عربيَّةٍ مضطربةٍ سياسيَّاً وأمنيَّاً واجتماعيَّاً واقتصاديَّاً، ممَّا جعل التنظيمات الإرهابيَّة المختلفة تجد مداخلها إليها لتزيد اضطراباتها وتتمكَّن من مفاصلها بنشر توجُّهاتها الفكريَّة بالعنف وبسفك الدماء، فداعش في العراق وسوريا والحوثيُّون والقاعدة في اليمن، والإخوان المسلمون في غزَّة والأردن ومصر والسودان، وفي كلٍّ منها وُجِدَ شبابٌ سعوديُّون مغرَّر بهم باسم الجهاد فاندفعوا إليها بتحريض من مشايخهم المتأخونين وبتمويلٍ من المتعاطفين معهم جهاداً بالمال، تنامى هذا الفكر الدعويُّ المتطرِّف المحرِّض وهذا التمويل منذُ العقد الأخير من القرن الهجريِّ السابق، ووجد مع بداية القرن الهجريِّ الحالي وبعد حركة جهيمان تحت مظلَّة ما سمّوه بالصحوة اتِّساعاً وانتشاراً، فتغلغل في جامعاتنا ومدارسنا وإعلامنا وجمعيَّاتنا الخيريَّة والتطوعيَّة، رعاه الإخوان المسلمون المصريُّون ونشره المتأخونون السعوديُّون من الجيل الأول المنتج إخوانيَّاً، فكر ومنهج أثمرا نقمةً على الوطن بعمليَّات إرهابيَّة تصدَّى لها الوطن فأعاقها ولكنه لم يجتثّ أمنيَّاً ولا فكريَّاً هذا الغرس الخبيث من نفوس ناشريه وحامليه ومنفِّذي خططه وتوجُّهاته، فمشايخه ما زالوا يستهدفون شباب المدارس والجامعات وإن لم يكن علانية كما في بدايات الصحوة باجتماعات وبمعسكرات، فإنَّه من خلال جهات التواصل الاجتماعيِّ والتقنيات الحاسوبيَّة وجدوا بديلاً أكثر تأثيراً، فتوجَّه المغرَّر بهم بدفع من مشايخهم والمتعاطفين معهم ومموِّليهم بعد أن ضاقت عليهم ساحةُ وطنهم نحو الدول العربيَّة المجاورة المضطربة وهم يخطِّطون للعودة لوطنهم وقد مكَّنتهم خبراتهم الإرهابيَّة فيها على تحقيق ما عجزوا عن تحقيقه من قبلُ. مسيرةٌ ومساراتٌ وَجدتْ مع بدايات الصحوة تشجيعاً من عموم المشايخ والعلماء إلاَّ مَنْ ندر، بل وجدوا من الشيخين الجليلين ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله حمايةً وشفاعةً وتمكيناً، وكان أولئك ومشايخهم المنظِّرين يستخلصون منهما الدعم والرضا والتأييد بفتاوى تأتي كإجابات لأسئلة وجَّهوها إليهما بصياغات مؤدلجة توصل لتلك الفتاوى التي استخدموها للتأثير على الآخرين في الجامعات والمدارس، ولمواجهة كلّ من وقف كاشفاً توجُّهاتهم، حتَّى أنَّهم طمسوا فكر الشيخ عبدالرحمن السعدي وفقهه المعتدل لأكثر من 5 عقود، وبفتاوى من الشيخين ارتفعت أصواتهم وعلت توجُّهاتهم ومكِّنوا فتمكَّنوا من دوائر المسؤوليَّة في الجامعات والمدارس ووسائل الإعلام والجمعيَّات الخيريَّة والتطوُّعيَّة باعتبارهم حرَّاس الفضيلة والفكر والمجتمع والمرأة، ووقفوا علانيَّة ضدَّ وطنهم في عمليَّات التغيير والتطوير وعارضوا توجُّه الدولة الأمنيِّ على إثر غزو صدَّام الكويت وتهديده دول الخليج العربيَّة، فارتفعتْ أصواتهم بأشرطتهم وبكتاباتهم ومن فوق المنابر وفي قنواتهم الفضائيَّة ضدَّ تطوير المناهج وتعليم المرأة وابتعاثها وعملها، وضدَّ معارضيهم ففسَّقوهم وكفَّروهم وعلمنوهم باسم الحداثة والتغريب والعمالة بزيارات السفارات، ولا أظنُّ أن الوطنَ قد نسي ذلك من سلمان العودة، عايض القرني، ناصر العمر، محسن العواجي، سعد البريك، محمَّد النجيمي، محمَّد العريفي ومن عبدالرحمن العشماوي وغيرهم كثيرون، أمَّا الفاعلون بعمليَّاتهم الإرهابيَّة ضدَّ رموز الوطن ورجالات أمنه فالقوائم الإرهابيَّة التي أصدرتها وزارة الداخليَّة وقوائم سجونها تكشف توجُّهاتهم الفكريَّة وخططهم ضدَّ الوطن. وعلى الرغم من محاولات وزارة الداخليَّة بتصحيح انحرافاتهم الفكريَّة بمناصحاتهم إلاَّ أنَّ العائدين منهم بعد الإفراج عنهم إلى أعمالهم الإرهابيَّة كشفتها الأجهزةُ الأمنيَّةُ السعودية بتفكيك تنظيمٍ إرهابيٍّ مرتبط بتنظيم داعش وإلقاء القبض على 62 من أعضائه، منهم 35 من مطلقي السراح في قضايا أمنيَّة ذات علاقة بالتطرُّف الفكريِّ وبالعمل الإرهابيِّ، بنسبة بلغت 56,5% من عناصر هذه الخليَّة، اقرأ مقالةً للكاتب في هذه الصحيفة في عددها رقم 903. هذا الوضع المضطرب لدول عربيَّة تجاور بلادنا والمهدِّد لها علانيَّة من تنظيمات إرهابيَّة وهذا التأريخ لهذا الفكر المتطرِّف وللأعمال الإرهابيَّة في بلادنا هما ما جعلا خادم الحرمين الشريفين حفظه الله تعالى حامياً للوطن يخاطب العلماء والمشايخ قائلاً لهم: «فيكم كسل وفيكم صمت»، ليأتي على إثره تصريح للشيخ عبدالله بن منيع خلاصته: «أنَّ هيئة كبار العلماء ستعمل على تعرية المذاهب الهدامة التي تشوه الدين الإسلامي…»، وكأنِّي بالشيخ الجليل يظنُّ بأنَّ الفكر المتطرِّف مذاهب وافدة إلى بلادنا، فيما هذا الفكر المتطرِّف منبعه تراثنا الفقهي السنِّي من أفكار واجتهادات وتأويلات وتفسيرات متطرِّفة فلنحاكمها قبل محاكمة مذاهب الآخرين، فليكن جهد التصحيح منصباً ومركزاً على مذهبنا السنيِّ حيث تستند إلى تراثه معظم حركات الإرهاب اليوم، فأين دور العلماء في تنقية تراث المذهب من تأويلات تدعم التطرُّف الفكريِّ؟ فلا يكفي منهم الشجب والاستنكار فليلتفتوا إلى الجذور والأصول التي يستند إليها منظِّروه المغرِّرون بشبابنا وليناقشوها ولينقضوها وليكشفوا انحرافاتها وزيف تأويلاتها، فالمضللون استمرُّوا ينشرون ضلالهم وانحرافهم عقوداً أربعة قامعين معارضيهم، فأين علماء المملكة المعوَّل عليهم؟، وأين باحثوها القادرون لينقُّوا تراث المذهب مما فيه من رؤى وتأويلات فقهية تدعم الفكر المتطرِّف وتفسِّق وتكفِّر الآخرين، بل وتستبيح دماءهم وغيرهم باسم الجهاد بتحريض ممَّن يسمُّون أنفسهم دعاةً ووعَّاظاً، صمت وكسل أشار إليهما خادم الحرمين الشريفين حفظه الله، فمتى ينهض كبارُ العلماء بأدوارهم فالوطن يمرُّ الآن بمرحلة خطيرة في أزمته مع الإرهاب والفكر المتطرِّف؟، وأحسبها مرحلةً تتطلَّب منهم أدواراً جادَّة صريحة وحكيمة وقويَّة -أعانهم الله- تتمثَّل بالآتي: * تنقية تراث الشيخين الجليلين ابن باز وابن عثيمين ممَّا علق به من فكر وفقه وفتاوى جاءت حماية للصحويِّين بداية مرحلتهم الصحويَّة وتمكيناً لهم ولتوجُّهاتهم، كانت إجابات بحسن نيَّة منهما لأسئلة ماكرة صيغت من منظِّري الفكر المتطرِّف بطرائق حقَّقت لهم مبتغاهم من الشيخين رحمهما الله. * مراجعة كلَّ ما صدر ممَّن يسمُّون أنفسهم بالدعاة والوعاظ من مطويَّات وأشرطة سمعيَّة وندوات ومحاضرات مسجلة أو مكتوبة أو منشورة في جهات التواصل الاجتماعي يتداولها الشباب، لحفزهم على نقضها ومخاطبة الشباب بالتراجع عمَّا يشوبها من فكر متطرِّف وتحريض على الجهاد، فلا يكفي تنصُّلهم منها وهي بين أيدي أتباعهم ومريديهم. * تحرير الجامعات والمدارس والإعلام والجمعيَّات الخيريَّة والتطوعيَّة ممن مكِّنوا فيها في العقود الأولى من الصحوة وما زالوا مسؤولين فاعلين بها، فلا يكفي تخلِّيهم عن أدوارهم المعلنة سابقاً، فسيظلُّون مؤثِّرين وناشرين لأفكارهم وتوجٌّهاتهم بسريَّة إخوانيَّة. * مراجعةُ برنامج المناصحة بمناصحة أمنيَّة لمَن كشفتْهم مرحلة السلطة الإخوانيَّة في مصر، فلن ينتهي الفكر المتطرِّف إلاَّ بضربات موجعةٍ لشيوخه ومنظِّريه ومموِّليه.