قال الفرزدق: فلم أر مهراً ساقه ذو سماحة كمهر قطام من فصيح وأعجم ثلاثة آلاف عبد وقينة وضرب عليٍّ بالحسام المصمم فلا مهر أغلى من عليٍّ وإن غلا ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم يصف شاعرنا الفرزدق هنا إحدى المرويات التاريخية المتعلقة ب «عبد الرحمن بن ملجم» الذي يعد أحد رموز الخوارج ومن قام بقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وبعيداً عن تحقيق صحة هذه الأبيات التي تُروَى عن الفرزدق، دعونا في البدء نقرأ هذه القصة التي هي أقرب للميثولوجيا منها للحقيقة التاريخية. فقد ذكر السدي في «المستدرك» أن عبدالرحمن بن ملجم عشق امرأة يقال لها «قطام» كان عليٌّ -رضي الله عنه- في إحدى معاركه مع الخوارج قد قتل أباها، فاشترطت عليه أن يكون مهرها 3 آلاف درهم وقتل علي رضي الله عنه. في البدء، تطل جملة من الأسئلة لعل أبسطها هو الكيفية التي توصل بها هؤلاء المؤرخون إلى معرفة ما جرى في الكواليس وكان من نتاجه مقتل علي بن أبي طالب؛ فكتب التراث تنقل الروايات ولكنها لا تشير إلى الكيفية التي تم من خلالها معرفة خيوط التآمر، إلا أن سلمنا جدلاً بأن شريكَيْ ابن ملجم الآخرَيْن اللذين قد أرسلا لاغتيال معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص هما من سرَّبا خفايا قصة عشق واتفاق ابن ملجم هذا. إلا أننا نستطيع تقبل مثل هذه الرواية التاريخية في حالة محاولتنا إغماض الطرف عما أحدثه الرواة المشهورون ومن تلاهم وتابعهم من اختلاق وتأليف ونحل القصص ووضع الشعر على ألسن عديد من أدباء ذلك الزمن. فنحن لم ننسَ إلى الآن ما أحدثه مطيع بن إياس وحماد عجرد وحماد الراوية وعديدون غيرهم ممن تابعهم في الرواية ونهج نهجهم القبيح في الاختلاق والدس في تاريخنا الأدبي والفكري من أحداث. بيد أنه بعيداً عن صدق أو زيف هذه الرواية وهذا الشعر، أجدني أتعجب أن يُستَغل العشق «أسمى درجات الحب» لتحقيق الانتقام «أدنى درجات البغض». ولكون تاريخنا العربي يزخر بالميثالوجيا كما أسلفت، فقد ورد في دفن جثمان علي بن أبي طالب عديد من الروايات منها: ما رواه أبو بكر بن عياش إذ قال: عُمِّي قبر عليٍّ لئلا ينبشه الخوارج؛ أي «أُخفِي ومُوه مكانه». وقال شريك: نقله ابنه الحسن إلى المدينة، وأخرج ابن عساكر عن سعيد بن عبدالعزيز، قال: لما قتل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- حملوه ليدفنوه مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبينما هم في مسيرهم ليلاً إذ ندَّ الجمل «شرد وهرب» الذي هو عليه فلم يُدرَ أين ذهب؟ قال، فلذلك يقول أهل العراق: هو في السحاب. وقال غيره: إن البعير وقع في بلاد طيِّئ فأخذوه فدفنوه. أوَ لم أقل إنها الميثالوجيا وزيف الرواية والرواة! أعتقد جاداً أن تاريخنا الأدبي والفكري بحاجة إلى إعادة دراسة وتحقيق يتسم بالمنهجية العلمية القائمة على التقصي والتحقيق، فدعوة عميد الأدب العربي الراحل طه حسين في كتابه المثير للجدل «في الشعر الجاهلي» لتطبيق المنهج الديكارتي في التعامل مع النصية الأدبية لم تأتِ من فراغ.