يردد السعوديون في مواسم الإجازات، أنّ أحب الأماكن إليهم في الوطن، هو المطار الذي يأخذهم إلى الخارج!! وفي دراسة أعدتها إحدى الوكالات العالمية للسياحة والسفر، جاءت السعودية ضمن دول المقدمة في أعداد المسافرين نسبةً إلى العدد الكلي للسكان! وقد علق أحد القراء على هذه الدراسة قائلاً: إنّ ما يمنع البقية من السفر هو عدم القدرة عليه، وليس عدم الرغبة فيه! ولأنّ هذا الهروب الجماعي للسعوديين بمجرد قدوم موسم الإجازة يتكرر بشكلٍ موسمي، فقد أصبحت دول الجوار تضبط ساعة بدء فعاليات الإجازة فيها على التوقيت السعودي، وأصبح السائح السعودي هو الصيد الثمين للجميع في الخارج، فأصبح لكل خدمةٍ أو سلعة تسعيرة خاصة للسعوديين، وتسعيرةٌ أخرى لبقية البشر! ورغم هذه المعاملة الظالمة للسائح السعودي، إلاّ أنّه يقبل بها، والسبب في ذلك هو حرمان السعودي من الترفيه في بلده، مما يجعله في حالة جوعٍ دائم للفرح والترفيه في الخارج، بغض النظر عن الطريقة التي يُعامل بها، أو جودة السلعة والخدمة السياحية المقدمة له. ولأنّ هذا الهروب الجماعي – والمتكرر- للخارج ليس أمراً طبيعياً، فيجب علينا أن نطرح الأسئلة بشأنه، وأن نحاول الوصول إلى إجاباتٍ لها، ومن الأسئلة التي يجب طرحها ما يلي: لماذا يغيب الترفيه في مجتمعنا بهذا الشكل الغريب؟ ومن المسؤول عن هذا الغياب؟ وما مدى صحة الرأي الذي يذهب إلى أنّ كثيراً من السياح السعوديين يذهب للخارج بحثاً عن الترفيه المحرم فقط، وأنّ الترفيه المباح موجودٌ في السعودية؟! هذه الأسئلة ومحاولة البحث عن إجاباتٍ لها هو موضوع هذه المقالة. في البدء، يجب تقرير مجموعةٍ من الحقائق، أولاً أنّ المواطن السعودي كائنٌ بشري يحتاج إلى الترفيه والفرح، وأنّه لم يخلق للعبوس والتجهم والجد وتذكر الموت فقط، وهذه الحقيقة تغيب عن كثيرٍ من القائمين على ما يسمى مهرجانات الصيف لدينا! حيث نجد فعاليات هذه المهرجانات البائسة شبيهةً بأجواء العزاء والمقابر، وغالب أنشطتها محاضرات عن العذاب والموت، وفقرات الترفيه فيها عبارة عن محاضراتٍ لمفحطين سابقين أصبحوا دعاةً في زمن الغفلة، وجل ما يرد في محاضراتهم هو من صميم المفردات والأفكار السوقية المبتذلة، ثم تصل مرحلة الترفيه في هذه المهرجانات إلى ذروتها، حينما يبدأ بعض الجهلة بتكسير بعض الآلات الموسيقية في مشهدٍ عبثي يصاحبه التكبير والتهليل، وربما يصح أن نطلق على هذه الفقرة مسمى «أطلق الداعشي الذي بداخلك». الحقيقة الثانية التي يجب تقريرها هنا، أنّ الخطاب الصحوي المريض نجح في إقناع الناس أنّ مفهوم الترفيه مرادفٌ للغفلة والإثم، وأنّ الترفيه المباح هو الترفيه الإسلامي فقط!! فقام هذا الخطاب خلال العقود الماضية بالقدح في كل أشكال الرياضة والفنون، والتنقيص والتأثيم لمن يمارسها، حتى نجح في إلغاء معظم هذه الأنشطة من الحياة العامة، فنجح في كثيرٍ من الأحيان بمنع إقامة الحفلات الفنية والعروض المسرحية، كما نجح في التضييق على الشباب في ممارستهم الرياضة داخل الأحياء والمؤسسات التعليمية، بل وصل التضييق إلى مناسبات الأفراح التي يهاجمها المحتسبون بمجرد سماعهم للموسيقى، إلى أن أصبح المرء غير قادرٍ على التمييز بين مناسبة زواجٍ أو مأتم عزاء! أمّا الحقيقة الثالثة هنا، فهي أنّ غياب الترفيه في مجتمعنا، وتحويله إلى بيئة كبتٍ ضاغطة، هو السبب الرئيس في وجود هذه الأعداد الهائلة من الشباب الهمجي العابث، وهو السبب في أنّ سوق المخدرات في السعودية هو الأكبر على مستوى المنطقة، وهو السبب كذلك في خروج هذه الأعداد الكبيرة من المتطرفين والإرهابيين السعوديين، وهذه هي الحقيقة التي يحاول بعضنا أن يهرب منها، ففي ظل حرمان الشباب من قنوات الترفيه المباح، وفي ظل إغلاق المنافذ أمام طاقاتهم الهائلة، علينا أن نقتنع أن النتيجة سوف تكون إما شابٌّ منحرف مجرم، أو إرهابي جاهل، أو مريض نفسي يعاني الكآبة، إلاّ من رحم ربي. الحقيقة الرابعة التي يجب تأكيدها هنا أنّ كثيراً من المسؤولين رضخوا للضغوط العبثية للتيار المتشدد الذي نجح في منع جميع أشكال الترفيه أو التشويش عليها إن حدثت، ولأنّ الغالبية من هؤلاء المسؤولين يقضون إجازاتهم في سويسرا وباريس ولندن فهم ليسوا مهتمين بتحسين بيئة الترفيه في مجتمعنا وتطويرها، فبعضهم يحقق المكاسب لدى العامة ولدى التيار المتشدد عن طريق إلغاء الفعاليات الفنية والترفيهية، متناسين أنّهم إنما وضعوا في مناصبهم لخدمة المواطن وليس للرضوخ لخطابات الانغلاق والتشدد والكبت، وهذا ما يجعل من واجب كل مسؤولٍ أن يحرص على القيام بعمله لجعل صناعة الترفيه والفرح في هذا الوطن لائقةً بالمواطن السعودي، عن طريق توفير البنية التحتية المناسبة لاستيعاب الشباب واحتوائهم، يدخل ضمن ذلك المنشآت الرياضية العامة، والمسارح ودور السينما، ومدن الألعاب بمختلف أنواعها، والمنتجعات والفنادق، وكل ما من شأنه خلق سياحةٍ داخلية منافسة لسياحة الخارج. الحقيقة الأخيرة التي يجب توضيحها هنا، هي أنّ المقصود بالترفيه في هذا المقال هو الترفيه المباح، وأعني بالمباح كل ما لايوجد دليلٌ قطعي على تحريمه، فهو في هذه الحالة من الأمور المختلف بشأنها وهو للمباح أقرب، أمّا ما كان محرماً لا يقبل الشك فهو ليس من باب الترفيه الذي يتحدث عنه المقال، كما ينبغي التأكيد هنا أنّ التحريم لا يكون إلاّ بنصٍ قرآني كريم قطعي الدلالة على التحريم، أو بحديثٍ نبوي شريف قطعي الثبوت والدلالة، ولا يكون بقول فلان أو بفتوى فلان، فجل الأمور التي يزعم بعضُنا حرمتها ليس عليها دليل بل فتوى، وإنما يستدل الجاهل بالفتوى، أمّا العاقل فيستدل لها إن أراد العمل بها. وبما أنّ العالم يعيش هذه الأيام أجواء كأس العالم، فقد قامت بعض الجهات الحكومية في بعض مدن المملكة بوضع شاشات عرضٍ كبيرة في بعض الميادين والساحات، وكنت أتمنى أن تقوم بلديات بقية مدن المملكة ومحافظاتها بمثل ذلك، ولكن ربما انشغل القائمون عليها بالسفر للبرازيل ومتابعة المونديال! وبالحديث عن كأس العالم سأختم المقال بتغريدتين تتحدث عن كأس العالم الأولى للدكتور محمد الهبدان الداعية الشهير يقول: «إلى متابعي كأس العالم: كان الإمام أحمد إذا نظر إلى نصراني غمّض عينيه، فقيل له في ذلك، فقال: لا أقدر أنظر إلى من افترى على الله وكذب عليه.». نقلتها كما هي رغم ركاكتها. الثانية للداعية علي البكري: «إلى متابعي كأس العالم: ما الجواب الذي تُجيبون به ربكم إذا سُألتم – هكذا كتبها- عن ذلك أين عقيدة الولاء والبراء أين محبة الله ورسوله والله مالهذا خُلقتم». نقلتها كما هي رغم ركاكتها. ربما تكشف هذه التغريدات وغيرها بعض أسباب الكبت والتضييق في مجتمعنا، وللقارئ الكريم تخيّل ناتج هذه العقلية حينما يكون صاحبها صانع قرار.