العوام هم فئة من الناس لا يخلو أي تجمع بشري منهم وإن اختلفت نسبهم صعوداً وهبوطاً بين مجتمع وآخر إلا أنهم غالباً لا يشكلون أي تأثير أو أهمية تُذكر إلا إذا تم تسخيرهم واستخدامهم من فئة الخواص، أي بقدر ما تُحسن فئة الخواص استغلالهم الاستغلال الأمثل، يتجلى تأثيرهم وأهميتهم. وبعبارة أخرى، هم أشبه بالكومبارس الذي يشارك الأبطال مشاهد الأفلام والمسلسلات كي تكتمل الحبكة الدرامية دون أن ينالهم ولو النزر اليسير من شهرة الأبطال. قد يتساءل بعضهم بعد هذه المقدمة البسيطة، وهل للعوام سلطة حقيقية، وهم على هذه الحال من التبعية والانقياد؟ الإجابة نعم، ولك عزيزي القارئ أن تتأمل ما يدور في وسائل التواصل الاجتماعي من مماحكات ومناكفات يقودها هؤلاء العوام ضد كل من يحلق خارج سربهم التبعي لكل ما هو سائد ومألوف من أقوال ومسلمات جبلوا على ترديدها دون وعي وبصيرة! والأدهى والأمر أنهم لا يجدون حرجاً في تحديد وتقدير مرتبة ومنزلة الفقيه والعالم والشيخ و….ضع ما شئت من مسميات وتصنيفات يستخدمها بعضهم إلى حد الابتذال والتكرار اليومي. وقد تمتد سلطتهم إلى دهاليز الأدب والفكر ليحددوا مدى أصالة المنتج الشعري أو الروائي من عدمه، دون أن يمتلكوا الحد الأدنى من الاطلاع والمتابعة! الحكاية لا تقف عند حد إبداء رأي يُمثل حصيلة اطلاعات وقراءات متنوعة كي يبدو على الأقل في نطاق القبول والرفض، ومن باب تباين واختلاف الآراء. ما يحدث في الواقع لا أجد له تفسيراً محدداً يضع الأمور في نصابها، فهو لا يمكن أن يكون «بأي شكل من الأشكال» نوعاً من الحراك الفكري أو الاجتماعي؛ لأنه بعيد كل البعد من حيث مضامينه عن المنهج الاستدلالي أو المنهج الاستقرائي، كما أنه أبعد ما يكون عن إفرازات الانتماء سواءً العقدي، أو المناطقي، أو حتى القبلي! والغريب أن أغلب العوام لا يرهقون أنفسهم بالالتزام بفتاوى بعض المشايخ الذين يرون أحقيتهم في تبوأ المنزلة الرفيعة دون سواهم حتى لو ماثلهم الآخرون في درجة العلم والتقوى!. فهم كما يزعمون بأنهم «يحبون الصالحين وليسوا منهم»!. أي أن عدم الاتِباع ليس بالضرورة من مقتضيات المخالفة في المنهج الذي يتبعه هؤلاء الصالحون، فهم وإن رأوا مشقة في أخذ بعض اجتهاداتهم، فذلك لا يمنعهم من قول ما يعتبرونه الحقيقة المحضة عند الاختلاف مع الآخرين، وهي بالتأكيد رجاحة فتاوى أولئك الصالحين!. تمثل هذه الحالة، نوعا من التناقض الوجداني «ambivalence» الذي اكتشفه العالم النفساني أوغن بلولر حيث يبدو المريض أن لا شيء لديه ليقوله وكأنه يعاني من فقر أو إفلاس أو نضوب فكري وقد يصل به الأمر إلى أن لا يجيب على الأسئلة الموجهة إليه إلا بعدما يردد ذات السؤال في نفسه أو قد يجيب بكلمة أو عبارة لا صلة لها بالسؤال الموجه إليه!. وبسبب ذلك التناقض الوجداني، تمادى كثير من العوام ووصل بهم الأمر إلى أن يتجرؤوا على تجريد العالم من علمه والانتقاص منه، بشرط ألا يكون محسوباً على التيار المهيمن على مفاصل الحياة الاجتماعية في المجتمع، فأحياناً تجدهم يصفون المخالف إما بطالب علم لا يؤخذ منه، أو مبتدع يبحث عن الشهرة أو مجرد مُقرئ… وهلم جرا من العبارات التي يلقيها بعض المتطرفين والمتشددين في أسماعهم ليل نهار. فهم على أتم الاستعداد للدفاع والمواجهة إذا اقتضى الأمر، وذلك بسلاح وحيد يرفعونه في وجه أي مخالف لآراء وفتاوى الشيخ الذي يزكون علمه على من سواه! ويا له من سلاح يقتل صاحبه قبل أن يشهره في وجه خصومه!. لأنهم يعتقدون أن إضفاء الصفة «الربانية» على هذا الشيخ أو ذاك، كفيل بلجم المخالفين وتكميم أفواههم، وإسقاط أي نقد يوجه إلى بعض اجتهاداتهم الفقهية، رغم أن المسألة لا تحتمل كل أساليب الإقصاء التي يستخدمونها لترهيب الطرف الآخر بغية إرغامه على التراجع عن رأيه، أو على أقل تقدير إسكاته عن مواصلة الحديث. كيف يتسنى لرجل لا يمتلك العلم الشرعي اللازم أن يحدد بأن هذا عالم وذاك طالب علم وآخر دون هذا وذاك؟ ثم يسلب بكل صلف وبجاحة حق الآخرين في إبداء آرائهم تجاه بعض الفتاوى الشرعية بذريعة أن «لحوم العلماء مسمومة»؟. هذه المقولة التي يعتقد كثير من العوام «جهلاً» بأنها وردت في أحد الأحاديث النبوية الشريفة، نتيجة اعتمادهم الكبير على الثقافة الشفهية التي يتناقلونها جيلا إثر جيل مما أدى إلى اختلاط بعض أقوال العلماء مع الأحاديث النبوية الشريفة في أذهانهم وسببت تكلسات حالت بينهم وبين عقولهم، وحجّمت كثيراً من قدراتهم العقلية بشكل لا يليق بعظمة العقل البشري. فهم لا يعرفون بأن هذه الجملة وردت في كتاب الحافظ بن عساكر « تبيين كذب المفترى فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري» في معرض دفاعه عن شيخه. أكثر ما يسترعي انتباهي في هذه الظاهرة المزعجة هو أن فئة العوام لم تعد تقتصر كما كان في السابق على أُناس لم تشأ الأقدار أن ينالوا نصيباً من العلم والمعرفة بحيث تكون محرضاً لعقولهم على التحرر من قيود التبعية العمياء وتثير في دواخلهم التساؤلات المنطقية لكل ما يحيط بهم من ظواهر وأحداث كي يدركوا بأن المعنى الحقيقي لوجودهم في هذا الكون أسمى وأعظم من أن يرهقوا أنفسهم بتوافه الأمور. فالطامة الكبرى أنه توجد شريحة كبيرة من خريجي الجامعات والمعاهد العلمية ممن ينطبق عليهم هذا الوصف! وكأننا أمام تطور نوعي لفئة العوام بحيث أصبح لدينا إن صحت التسمية «المتعلم الأمي» أي الذي يحتاج إلى إعادة تأهيل رغم السنوات الطويلة التي قضاها في طلب العلم والمعرفة؛ لأنه تتلمذ على أيدي مشايخة التلقين الذين أوهموه بأنها الطريقة المثلى للوصول إلى مبتغاه. أخشى أن يأتي اليوم الذي نتفاجأ فيه بأن هذه الفئة تطورت وتمددت بصورة كارثية أكثر مما نتخيل، لتنتج لنا أساتذة جامعيين وأطباء ومهندسين…. إلخ وعندها لن نكون بحاجة إلى عقولنا لأنها ستصبح وبالاً علينا وخطراً كبيراً!.