كثرت خلال هذه الأيام إساءة التصرف في قضية اختلاف الرأي بين الفقهاء المجتهدين وغير المتخصصين في أحكام الدين، ممن أتاحت لهم وسائل الاتصال والمجالس فرصة إبداء الرأي في العديد من المسائل الفقهية الاستنباطية، وإثارة الحساسية تجاه ما يطرح من رؤى لا تتفق مع أهواء ذلك المتلقي. إلا أن الأمر لم يقف عند هذا الحد من الاختلاف حول تلك المسائل الفقهية، بل يمتد هذا الاستعداء إلى صاحب الرأي ونعته بأوصاف لا تليق بمكانته التي حفظها الله للعلماء, ولا شك أن وراء هذا الاستعداء أمور كثيرة يمكن إرجاعها في حالات إلى ضعف ثقافة الحوار لدى البعض، وتقبل إمكانية وجود اختلاف في الرؤى الفقهية لدى الكثير من علماء الشريعة، وأن هذا الأمر كان ملازماً للحياة العامة منذ زمن أصحاب الرسول صلى الله علية وسلم، وأن ذلك الاختلاف لم يتجاوز حدود التمسك بالرأي وفق ما لدى الفقيه من الأدلة مما يعزز به تغليب وجهة نظره، بعيداً عن الانتصار للرأي بأساليب الإقصاء والتقليل من قيمة الرأي الآخر وصاحبه واستعدائه، كما يمكن إرجاع إثارة هذا الاستعداء تجاه بعض تلك الرؤى وأصحابها في حالات أخرى إلى محاولة تشكيك العامة من الناس بالقيمة العلمية والمرجعية للعالم صاحب الرأي. أدب النقاش وفي مضمون ما يفرزه اختلاف الرؤى الفقهية بين رأيين مختلفين يحاول أن ينتصر فيها رأي على الرأي الآخر، وما يحدث من تجاذب يفضي بالنهاية إلى ما يشبه الاستعداء بين الأطراف تجاه هذا الرأي، مما يمثل سلبية في أدبيات الحوار والنقاش الفقهي، فقد قال معالي الشيخ د.عبدالله بن سليمان بن منيع عضو هيئة كبار العلماء والمستشار في الديوان الملكي : لاشك بأن ما يسمى بالاستعداء وهو أن يكون هناك مناقشة بين رأيين صادرين من طالبي علم, وتصل المناقشة إلى حدود جرح المشاعر الشخصية، لاشك بأن هذا ليس من أدب المناقشة، وإنما هذا يصدر من أنصاف المتعلمين ممن لا يعرفون للعلماء قدرهم، فنحن نتمنى من هؤلاء أن يرجعوا إلى سلفنا الصالح أمثال عبدالله بن مسعود وعبدالله بن عمر، فهؤلاء معروف أن لديهم - رحمهم الله - اختلافات فيما بينهم في فروع الشريعة فيما يتعلق بمسائل الطهارة ومسائل العبادات وفي المعاملات ونحو ذلك، ومع ذلك كل واحد منهم يكن للآخر ما يكنه لأبيه أو لأخيه الشقيق دون أن يكون وراء ذلك ما يمكن أن يجرح المشاعر ونحو ذلك، وتساءل الشيخ المنيع قائلاً لماذا لاتكون اتجاهاتنا مثل هذه الاتجاهات كي نحفظ لإخواننا مكانتهم وقيمتهم وكفاءتهم العلمية، وفي نفس الأمر لا يعني أنني حينما أحترم أخي العالم أنه يلزمني أن أقول برأيه، بل يحتمل أن يكون عندي رأي مخالف لكن هذا الرأي المخالف يوجب أن أبدي حجتي ووجهة نظري في هذه المخالفة مع الاعتراف له بالفضل وقيمته ومقامه، وقال معاليه إن هذا هو الإطار العام الذي يجب أن يكون بين العلماء، أما من يخرج عن هذا المنهج فلا نستطيع أن نعتبرهم من العلماء، وإنما نصنفهم تصنيفاً يكون مستواه أقل من أن يكونوا محل ثقة للعموم. مناقشة بدون تجريح وحول رأي د.منيع في استحسان المناقشة بين المختلفين في الرأي بعيداً عن مجالس العامة، قال إذا كانت القضية عامة وفي نفس الأمر لها مجموعة أقوال، فهذه الأقوال التي تجعل لمن كان عنده أي رأي في هذه المسألة دليلاً يمكن أن يسنده إلى أحد القولين، فهذه من فوائد وإيجابيات أن تكون المناقشة علنية، لكننا نشترط في المناقشة العلنية أن تكون مبنية على الأدب في النقاش والبعد عن التجريح الشخصي. جهة إبداء الرأي وحول الخروج من إشكالية هذه الخلافات المتضادة في الرؤى من خلال تحديد جهة واحدة مؤهلة لها الحق في إبداء الرأي في أي خلاف فقهي، قال الشيخ د.منيع :نتمنى أن يكون ذلك لكن أين هذه الجهة، هيئة كبار العلماء مؤهلة، لكن نستطيع أن نقول إن خارج هيئة كبار العلماء مَن هُم في مستوى أعضائها فلماذا نحجر المسائل والرجوع إلى الكلام فيها في جهة معينة، مضيفا أن العلم الشرعي في عهد الصحابة كان في مجموعة كبيرة منهم، ولم يكن هناك من الخلفاء الراشدين والولاة أنفسهم من حَجَر العلم على جهة معينة حتى نقول إنه لا يجوز أن يصدر حكم في أي قضية إلا من خلال هذه الجهة، بل من كان عنده تأهيل علمي لأن يخوض في أي مسألة من المسائل التي تهم المسلمين مستنداً على ما يبرر قوله فله الحق في أن يقول ذلك سواءً قُبل منه أو لم يقبل منه، محذرا من تدخل العامة في إبداء الرأي في القضايا الفقهية لأنهم ليسوا متخصصين بها، مؤكداً على أن ذلك تدخل سيئ وأنه محل استياء من علمائنا الأفاضل. مستوى عام ومستوى خاص وحول تحديد جهة واحدة لإبداء الرأي قال الأستاذ الدكتور عبدالرحمن بن زيد الزنيدي أستاذ الثقافة الإسلامية بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية إن هذا له مستويان: الأول هو المستوى العام، وهذا لا يمكن فيه شرعا أن يُلزَم علماءٌ مُجتهدون بأن ينصاعوا لفتوى فرد أو مجموعة، فهذا لا يسوغ شرعا لمن يمارس عملية الاجتهاد فمثلا إذا تبوأ عالم مقام الإفتاء على فضائية تَرِد إليها أسئلة المسلمين من كل مكان، فإنه لا يسوغ له أن يحيلهم إلى فتاوى هيئة، أو لجنة، أو مجمع، وهو يرى خلافه، ولا يمكن إلزامه بذلك. والمستوى الثاني هو الخاص بموقع معين، أو في ظروف محددة في فتاوى تمس الشأن العام، ويؤدي الاختلاف فيها إلى اضطراب أمر الناس، فهنا يمكن د.عبدالله بن سليمان المنيع لولي الأمر أن يُجري العمل على فتوى معينة سواء كانت للمفتي الأكبر في الدولة، أو لهيئة إفتائية، وينبغي للآخرين أن يتجاوبوا مع هذه الفتوى حتى ولو كان لهم رأي مخالف اتقاءً للفتنة، والاضطراب. لا رأي «للعامة» في القضايا الفقهية أما ما يتعلق بالعامة ونحوهم ورأيهم في القضايا الفقهية، فقال إنه ينبغي أن نفرق بين فئتين: فئة «العامة» الذين لا يحسنون الصناعة الفكرية وليس لديهم ثقافة شرعية حتى ولو كانوا ذوي معرفة بالعلوم التقنية أو الخبرة الإعلامية فهؤلاء مقلدون، دورهم هو سؤال أهل العلم الشرعي المتخصصين فيما يحتاجون إليه من أمور دينهم سواء في العبادات أو المعاملات، أما دورهم الاجتهادي فهو البحث عن الأعلم والأتقى بحسب ما يدركه من تزكيات العلماء الآخرين والقبول لهم لدى الناس. وأضاف: أما فئة المثقفين ثقافة شرعية لا تبلغ بهم إلى درجة الاجتهاد، فهؤلاء لا يحق لهم أن يتصدروا للفتوى، وإطلاق الأحكام بالحل والحرمة، ولكن من حقهم أن يستفصلوا من العلماء عن مبنى اجتهاداتهم تدليلا وتعليلا، لأن هذا وإن لم يصل بهم إلى درجة أن يجتهدوا، لكنه يجعل نفوسهم مطمئنة لقوة أدلة الفتوى التي يأخذون بها، بحيث تجد نفوسهم حرجا في تجاوزها حتى وإن كانت تميل برغبتها البشرية نحو فتوى أخرى. الاختلاف سبيل التلاقي وحول الاختلاف في الأفكار والرؤى والاجتهادات قال أ.د.الزنيدي إن ذلك أمر لا فكاك منه في عالم البشر الذين جعلهم خالقهم مختلفين في عقولهم وإدراكهم، وفي زوايا نظرهم وفي إمكاناتهم العلمية، والاختلاف قائم على كل المستويات، لكن الله سبحانه وجه الناس أن يجعلوا هذا الاختلاف سبيلا للتلاقي والاستثمار المتبادل بينهم " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا" والتعارف أول خطوات التلاقي والتقارب. وأشار إلى أنه إذا كان هذا على مستوى الأمم، فإنه في الدوائر الأضيق أولى أن يكون متجهاً نحو التقارب والألفة كما هو الشأن في الدائرة الإسلامية، خاصة بين المجتهدين الذين تجمعهم مرجعية واحدة هي القرآن وسنة الرسول –صلى الله عليه وسلم–، وهذا ما كان يمارسه الإعلام من سلف الأمة من الصحابة وتابعيهم والأئمة الكبار كأئمة المذاهب الفقهية، فلم يكن الاختلاف بينهم في آرائهم وفتاواهم مفضيا إلى تشاحن ونظرات احتقار، وإغراء الأتْباع بالمخالف، بل كانوا –كما ورد عنهم– يتحاورون في المسائل في المسجد فتختلف اجتهاداتهم، ويحتفظ كل منهم برأيه ثم يخرجون من المسجد متماسكي الأيدي متآلفين. تصنيف واستعداء العلماء وحول هذه الجزئية الهامة التي ينشأ عنها تصنيف العلماء وازدراؤهم ووصفهم بأوصاف لا تليق بمكانتهم التي حفظها الله لهم، وذلك حال الاختلاف معهم، فقد قال أستاذ أستاذ الثقافة الإسلامية: إن النتيجه هي إما التنافر، والازدراء المتبادل، وتجييش العامة، أو إغراء السلطة بالمخالف، ووصم اجتهاد المجتهد المخالف بأنه فتوى شيطانية، ورأي مزيف، وشذوذ عن الحق، فإن سببه –في نظري– قصور في مقارف هذه السوءات، إما قصور علمي يجعله يرى اجتهاده أو اجتهاد من يتبعه في مقام ما قرره الشرع في نصوص وحيه مما ليس بعده إلا الضلال، أو أن لديه خللاً نفسياً حيث يضيق عطنه أن يُخالف، ويتأزم أن يرى أحد خلاف ما يراه، أو يعد ذلك هدما لشخصيته، لا مجرد اختلاف معه، وأحيانا يكون مصدر الضرر هنا هم الأَتْباع الذين يُغْرُون متبوعهم بالآخر المختلف معهم باقتطاع قوله، وإضافة ما لم يقله، أو تهويل أثره على الناس بأنه أفسدهم، أو بلبلهم فيحتد هذا المتبوع انسياقا مع أتباعه، ويتلبس هذا الانسياق نفسيا بصورة الغَيرة على الحق. إضعاف المرجعية يتساءل الأستاذ الدكتور عبدالرحمن بن زيد الزنيدي ماهو المعطى الذي تثمره حالة التعادي بين طلاب العلم؟، إنه للأسف الشديد إضعاف قيمة المرجعية العلمية الشرعية لدى عموم الناس، وإسقاط الرموز الشرعية من حيث قيمة اجتهاداتها، مما يؤدي إلى فتح الساحة ليقول فيها كل من شاء بما شاء بلا خطام ولا زمام. وهذا أحد الأهداف الإستراتيجية لأعداء المجتمع المسلم، وقد نص على ذلك منذ عقود بعض المستشرقين في تحليلهم للممانعة الثقافية في بعض المجتمعات المسلمة، وعللوا ذلك بأنه المقام الحاسم للنصوص الشرعية عبر العلماء الشرعيين الذين يقدمون للناس الرؤى والمواقف التي ينبغي أن يتخذوها د. عبدالرحمن الزنيدي بناء على اجتهاداتهم التي تفسر لهم النص الشرعي، وقال هؤلاء: إنه من أجل أن ينفتح المسلم على الفكر المعاصر لابد من تحطيم الهالة التي تحيط بالنص المقدس عبر تحطيم هالة العالم الشرعي. من يقف خلف هذا الاستعداء وفي إطار اختلاف الرؤى في القضايا الاجتماعية أو القضايا الفقهية يبرز العديد من أوجه التحدي والانتصار لوجهات النظر ومن يعمل على تأجيج أوجه الخلاف والاستعداء، وهنا يؤكد أ.د الزنيدي بأن مشكلة الشحن المتبادل والتعادي -في مجال الاختلاف الفقهي- تكون غالبا في المسائل ذات الحيوية الاجتماعية، أي التي يكون فيها –قبل الفتاوى– شدٌّ وجذب بين الناس بين مؤيد ومعارض، وقد تكون هناك أطراف أخرى سياسية أو فكرية أو مادية لها صلة بالموضوع، فتكون المسألة ذات حساسية حينما تُتناول شرعا، لأن الناس لا تكترث كثيراً بأن يقول فلان من الناس هذا مقبول، وهذا مردود، لكن حينما يقول العالم الشرعي رأيه فإنه سيؤثر على الناس، وهنا تلقائيا سينقسمون إلى قسمين، قسم سيشايع الفتوى لتوافقها مع وجهته السابقة، أو لورعه، وقسم ستزعجه الفتوى لوقوعها ضد ما يرى أنه الحق، وهنا سينبعث أناس من أهل العلم ممن يرى خلاف هذه الفتوى فيعلن فتوى مخالفة للأولى، وتُحمل رايتان لفتويين مختلفتين رافع كل منهما هم العامة أو الأتباع، مع سعي حثيث لجر صاحب الفتوى نفسه معهم لمضادة المخالف والتشنيع عليه. تلافي الاحتقانات ولإعادة الاتزان والتوازن في طرح الرؤى وتهدئة الساحة من مقومات الاحتدام والاحتقان، قال إنه يمكن تلافي كثير من هذه الاحتقانات والتشويش المتبادل والتشظي لو أن طلاب العلم الشرعي كانوا ذوي سَبْق لحركة الزمن بحيث يلتقون في مجامع، ويبحثون عبر دراسات علمية ونقاشات هادئة القضايا المستشرفة قبل أن تتوطن في الساحة وترتبط بها مصالح ومواقف نفسية ومادية وسياسية، تجعل طالب العلم تابعا لحركة الزمن، ناظرا ومن ثم مفتيا في قضايا حسم الحراك الاجتماعي أمرها، ما يجعل هذه الفتاوى مجرد إبراء ذمة، أكثر منها فاعلا في الواقع فضلا عن كونها مجال صخب يثير ولا يغير. أدبيات الخلاف وعن نشوء ظاهرة الاستعداء لرأي بعض العلماء قال د.عبدالعزيز بن محمد الربيش عميد الدراسات العليا بجامعة القصيم إن ذلك ناشئ عن جهل البعض بأدبيات الخلاف، وأنه من المفترض أن تكون هناك مساحة واسعة من الاختلاف وفق نصوص القرآن والسنة النبوية وما اتفق عليه من أدبيات الخلاف، كما يجب أن يتعلم الإنسان أن هناك أموراً محسومة يوجد فيها نصوص من القرآن أو السنة، وأن هناك مساءل مختلفاً عليها، وفي مثل هذه المسائل ينبغي أن يتعلم الإنسان أيضاً أن يكون الرأي المطروح صواباً كله أو خطأً كله، أو بعضه يحتمل الصواب وبعض منه يحتمل الخطأ. منهج الحوار وأرجع د.الربيش نشوء مثل هذه الأمور من الاستعداء التي تعتبر من الأخلاقيات غير الجيدة إلى عدم تطبيق المنهج الصحيح للحوار والأفق الضيق لدى البعض، وقال إنه على الإنسان أن يكون لديه علم ومعرفة بأصول المسائل في مثل هذا الموضوع، مثل من له الحق في إبداء الرأي، وهو أن يكون متخصصاً في المجال الذي يبدئ الرأي فيه، وأن لا يتسرع في إبداء الفتيا، مضيفا أن الصحابة رضوان الله عليهم يتدافعون الفتيا، وإذا حصل خلاف بينهم فإن كلاً منهم يرتضي هذا الخلاف. وأشار إلى أن العلماء وضعوا سياجاً متيناً يمنع دخول العامة وأنصاف المتعلمين في الفتوى، منطلقين في ذلك من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ومن ذلك قوله تعالى "ولاتقفُ ما ليس لك به علم"، موضحا أن النبي حذر من هذا الأمر أشد تحذير في قوله صلى الله عليه وسلم "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". وأضاف أن العلماء وضعوا شروطاً لمن يفتي، منها شروط الاجتهاد، وتصل إلى أكثر من عشرة شروط، منها العلم بالقرآن والسنة، والعلم بالتفسير، والعلم بالناسخ والمنسوخ، والعلم باللغة العربية ومدلولاتها إلى غير ذلك مما وضعه العلماء من شروط وضوابط لأهمية الفتوى وخطورتها.