عزيزي الشاب! أراك في مقتبل العمر وريعان الشباب لم تحنكك التجارب بعدُ، ولا تزال حماستك تتقدم عقلك في بواكيره، فأنت في مطمع من خطابات الأدلجة والاستقطاب والاصطفاف، تستهدفك لتتخذ من عاطفتك وسذاجة فطرتك وجذوة الإيمان والغيرة في قلبك الطيب وقوداً، تُذكى في خصومات ومعارك تلهيك عن مشروع عمرٍ كان أجدى أن يُشغلك، ففيه شغل عن كل شاغل. لست أدعوك إلى الاعتزال وإعلان القطيعة سداً لهذه الذريعة، ففيه من حرمان التجارب ولقاح العقول ما يربو عما أردتَ توقيه من مغبة استلاب العقل واستقطاب العاطفة، فلا تكن ربيباً لهذا ولا ذاك، ولكن وطّنْ نفسك على ألا يكون عقلك مستودعاً لأحد، ليس له من جهد إلا أن يحفظ ما يُلقى عليه ويُملى؛ ليصبح نسخة مكرورة مقصودة عن سبق ترصد، فالله سبحانه إنما منحك العقل ليكلِّفك به، لا لتهبه غيرك، فالعقل مناطٌ للتكليف، والقرآن في آيات كثيرة يحثك على التفكر والتعقل والتذكر والتبصر، ولا سبيل لذلك إلا بإعمال العقل والدربة منذ ناشئة الشباب على التجرد في التأمل، والنظرِ بأناة في ما تخلط فيه الأصوات من معترك العقول والعواطف، وعلى الدربة - كذلك - على إحكام عاطفتك وإلجامها بلجام العقل أن تنساق لعواطف الجماهير من دون روية وتفكير، وقبل أن تجد إجابة شافيةً عما يعتمل في صدرك من إشكالات وتساؤلات في ما تنساق له الجماهير ويُحشد له الناس، فالاستجابة من دون تمهل ورويّة إنما هي خالصة لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في ما ظهرت دلالته، فلا تُشرك معهما في هذه الخصيصة أحداً؛ كائناً من كان. حذارِ أن تفهم من هذا أن استقلال التفكير وإعمال العقل لا يكون إلا بمخالفة الجماهير وخطاب العاطفة، كما يتعمّده بعضهم ليُثبت استقلاله، فقد يكون هذا من موات الضمير وانتكاس الفطرة واعوجاج الفكر، إنما معناه ألا تغرنك الكثرة وتحملَك على أن توافقهم وتنساق مساقهم قبل أن تَجد الإجابة عن تساؤلات عقلك وعما يثار من شبهات حول ذلك، وهذا يقتضيك ألا ترعي سمعك لطرفٍ دون آخر، أو تحصر قراءتك واطلاعك في قول وأنت تجد أقوالاً أخرى يمكن أن يكون لها حظ أكبر من النظر، أو أن تنظر بعين غيرك يحتكر رؤيتك ويصرّفها الوجهة التي يريد، جربْ أن تقرأ الحدث أو المسألة من زاوية أخرى، وأن تناقش وتتحرر من التبعية الصامتة. لست أدعوك إلى أن تستقل برأيك وتعتدّ باجتهاد عقلك في فهم الدين استغناءً عن العلماء في المسائل العلمية المحضة، فتلك قضية محسومة، واحترام التخصص في كل فن سنّة ماضية، إنما عنيتُ تلك القضايا الساخنة المثارة مما تختلف فيه وجهات النظر، لا يخرج شيء منها أن يكون محض اجتهاد يحتمل النقض والمخالفة. يعز عليّ أيها الشاب الصغير أن تكون وقوداً في معارك خاسرة كما كان غيرك قبل سنين، الذين أدركوا بعد فوات الأوان أن ما تعاركوا فيه كان الوقتُ - ظرف المتغيرات - كفيلاً بحسمه لو تركوا التعارك فيه، ولتوافر عليهم الجهد والوقت لما هو أنفع. عزيزي الشاب: ستجد آخرين يحدثونك كثيراً أن العصمة ليست إلا للرسل والأنبياء في ما يبلغونه من وحي الله، ستجدهم يقررون كثيراً أن هذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة، وأنهم ماضون عليها اعتقاداً وعملاً، ثم ستكبر وتعلمك التجارب أن نفي العصمة والقداسة التي يدعيها (كثيرون) عن شيوخهم لا وجود له في الخارج، كما يقول المناطقة - أي خارج الذهن -، فسلوكهم يكذّب دعواهم، فشيوخهم لا يُستدرك عليهم، ومن يحاول ذلك فهو متهم على كل حال أنه يريد انتقاص الشيخ، لا يفرقون بين رأي الشيخ وشخصه، فانتقاد رأيه هو انتقاد لشخصه، بل سيوهمونك بأن ما يقرره الشيخ ويفتي به هو شرع الله، وكل محاولة نقدٍ لما يصدر عنه فهي بالضرورة محاولة لانتقاص الشرع والاستدراك عليه، هكذا يتوهمون ويحاولون أن يوهموك، فاحذر مسلكهم، ولا يخدعنك خلطهم. ستجد - عزيزي الشاب - مزيداً في مقالة لاحقة. * أكاديمي في الشريعة. [email protected] samialmajed@