في كل الأديان يحتوي الموروث الديني على عديد من الوجوه المتناقضة، فإلى جانب نزعات العنف والقسوة والدعوة إلى (الكراهية المقدسة) والقتل باسم الله، هناك نزعات تسامح ومحبة خالصة. الموروث الديني بكافة أشكاله التي تصل أحيانا حد التناقض والاصطدام والعداء – أتحدث هنا عن كل الأديان – هو من صنيعة البشر. والبشر يتأثرون بعوامل عديدة كالزمان والمكان والثقافة والبيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكل هذه العوامل تنعكس بشكل واضح ومباشر على رؤيتهم وفي طريقة تعاطيهم مع النصوص المقدسة. الوعي البشري انتقائي، يأخذ ما يتناسب مع عواطفه ويهمل ما يتناقض معها، ولذلك فإنه يبدو من الطبيعي للغاية، وجود مسلمين أو مسيحيين أو يهود يرون أن الدين دعوة إلى المحبة، مقابل مسلمين أو مسيحيين أو يهود يرون أن الدين دعوة إلى البغض. كل يأخذ من النصوص ما يتناسب مع طبيعة تكوينه النفسي والعاطفي والثقافي، وأحيانا ينتقي بعضٌ ما يناسبه لكي يوظفه لخدمة مصالحه الشخصية. السياسيون هم أكثر من وظف النصوص الدينية لخدمة مصالحهم، حدث هذا في تاريخ كل الأديان دون استثناء. ولأن ذلك حدث فإنه ظل جزءا فعالا ومؤثرا من الموروث الديني الذي لا يزال يستلهمه البشر في تمثلهم للدين. حتى المسيحية الغربية التي أثرت فيها الأفكار الإصلاحية بشكل أبعدها كثيرا عن التعصب، لا تزال تحتوي على مخزون قائم على البغض والتحريض. وإلا فما هو تفسير الإساءات التي وجهها البابا السابق بنديكت السادس عشر للرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟! وما هو الدافع وراء إقدام أحد القساوسة الأمريكيين على إحراق نسخة من المصحف الكريم قبل سنوات؟ وما هو الدافع وراء استثناء المسلمين من الاعتذار الذي قدمه البابا يوحنا بولس الثاني للمسيحيين الأرثوذوكس عن الجرائم التي طالتهم وطالت أديرتهم في المشرق العربي إبان الحروب الصليبية؟ وما هو التفسير لتبرئة الكنيسة الكاثوليكية لليهود من دم المسيح، رغم ما ورد في جميع الأناجيل على لسان اليهود (دمه علينا – أي المسيح – وعلى أبنائنا)؟! لا شك عندي أن التوظيف السياسي للموروث الديني هو المسؤول، ولا شك عندي أن السياسي يقوم بإحياء وتوظيف الوجه الذي يخدم مصالحه من الموروث، دون أن يكون مضطرا لاختلاقه. ذلك أن الموروث الديني يحتوي في كل الحالات والأوقات، على الشيء ونقيضه. ما أريد أن أقوله هنا هو أن ما نشاهده الآن من جرائم وفظاعات ارتكبتها ولا تزال ترتكبها كل من داعش وجبهة النصرة وتنظيم القاعدة وبوكو حرام، لا يعكس الموروث الإسلامي كله كما يدعي بعض الليبراليين الذين يفتقدون للمعرفة التاريخية والدينية. كل ما حدث ويحدث هو مجرد توظيف لجانب من هذا الموروث. وبالطبع فإن المؤسسة الاستعمارية الرأسمالية هي من قامت بتوظيف هذا الجانب بمساعدة الحليف الأكبر في المنطقة، الرئيس أنور السادات. لقد قام الرئيس السادات بإخراج الجماعات الإسلامية من جحورها بغية مصادرة مشروع التحرر الوطني المناهض للمصالح الغربية والمنحاز للطبقتين المعدمة والمتوسطة. لكن تحالف السادات سرعان ما انهار مع هذه التنظيمات، بعد أن ساعدته على تصفية خصومه في الداخل، فكان أن تحول الصراع إلى مواجهة شرسة بين الدولة وما تمثله من مؤسسات وقوانين وقيم، وبين تلك الجماعات التي لم تكن تنظر إلى الوطن إلا باعتباره جزءا من مشروع الخلافة الإسلامية. إن الموروث الديني الإسلامي يحتوي، مثله في ذلك مثل غيره، على عديد من الوجوه، لكن الصراعات الدولية والإقليمية جعلت الغرب يقوم بإعادة إحياء الوجه الدموي من ذلك الموروث، حسب ما اعترفت بذلك وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون وهي تدلي بشهادتها عما كان يسمى بالجهاد الأفغاني إبان الاحتلال السوفييتي لأفغانستان. ربما لا نكون كمسلمين أرقى من غيرنا، لكننا بالتأكيد لسنا أسوأ من أحد.