تكمن معضلة العلاقات المصرية - الأميركية في تباين غاياتها الأساسية لدى طرفيها منذ لحظة صياغتها. فعلى الجانب الأميركي، كانت الغاية الأولى هي تفكيك الدور المصري في قيادة حركة التحرر العربي بالشكل الذي عبر به عن نفسه في خمسينات وستينات القرن الماضي. في ما كانت الغاية المصرية هي الخروج من مأزق الصراع الأبدي بين العرب وإسرائيل، والعداء الكامل للغرب. وهكذا ولدت الصداقة المصرية - الأميركية مع فض الاشتباك الأول مع إسرائيل 1974. ونمت مع زيارة الرئيس السادات إلى القدس 1977. وبلغت ذروتها مع توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل 1979. ومن تلك الذروة، وعبر عقود ثلاثة، نحت العلاقة بين البلدين من الحميمية الشديدة والاحترام العميق، إلى الاحترام المتبادل من دون حميمية، وأخيراً إلى حالة من التوتر المصحوب بالشك. ويمكن قراءة هذه المراحل الثلاث في سياق برنامج المعونة الأميركية لمصر طيلة العقود الثلاثة. فعندما بدأ هذا البرنامج مطلع الثمانينات كانت مصر وضعت الحضور السوفياتي القطبي في قلب المشرق العربي على طريق بداية النهاية منذ 1972، وخرجت لتوها منتصرة - ولو استراتيجياً - من حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 إحدى أشرس الحروب النظامية في النصف الثاني للقرن العشرين، وتشرع في التوقيع على معاهدة السلام التي غيرت جذرياً نمط التفاعلات الإقليمية حتى الآن، رغم المعارضة العربية القوية لها حينذاك. وكان معنى ذلك أن مصر تراكمت لديها قدرة كبيرة ليس فقط على قراءة المشهد الدولي بل على التأثير فيه. كما أن بيدها مفاتيح الحرب والسلام في المنطقة. والأهم من ذلك أن العقل السياسي الأميركي كان يدرك ذلك ويقدره، مبرراً لشعبه ما يدفعه لمصر بأنه سوف يجني من خلاله سياسياً واستراتيجياً أضعاف ما تكسبه مصر مالياً، وذلك رغم ضخامته نسبياً آنذاك، إذ بلغ، بشقيه العسكري والاقتصادي، نحو 2.5 بليون دولار، في وقت كان حجم الناتج القومي المصري لا يزيد على 40 بليون دولار. وفي التسعينات، ورغم أن العقد بدأ بتحالف مصري - عربي - أميركي ضد العراق لتحرير الكويت، ترتب عليه إسقاط الولاياتالمتحدة لجزء من ديونها على مصر، إلا أن العقل السياسي الأميركي، ربما منذ سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، تزامناً مع هزيمة العراق وحصاره، وتحوله عبئاً على الكتلة العربية بدلاً من كونه رافعة قوية لها، أخذ يستشعر تراجع احتياجه إلى مصر إما لكون المراكز الإقليمية صارت أقل محورية في إدارة الصراع العالمي، أو لأن فعالية جبهة المشرق العربي تعطلت بحصار العراق، وتراجع خطرها على إسرائيل. ولأن العقل الأميركي براغماتي النزعة، بدا له هذا البرنامج قليل الجدوى إقليمياً، ولذا سعى إلى ربطه بأغراض مباشرة، أكثر ارتباطاً بالداخل المصري. وفي العقد الأخير، ومع صعود اليمين الأميركي وسقوط بغداد، وبزوغ إيران كقطب رحى للاستراتيجية الإقليمية، أخذ العقل الأميركي ينظر إلى هذا البرنامج باعتباره عديم الجدوى. ولإكسابه تلك الجدوى تم تحويله إلى أداة ابتزاز للمواقف المصرية، وصار تدريجاً أسيراً لغرائز اللوبي الإسرائيلي في الكونغرس تعبث به كلما نشب خلاف في الرأي بين مصر وإسرائيل، وهكذا صار البرنامج أداة في إدارة العلاقات المصرية الإسرائيلية، أكثر مما هو في العلاقات المصرية - الأميركية. وهنا كان لابد من أن تبلغ العلاقة بين البلدين مستوى التوتر، وكان طبيعياً أن تتوقف رحلات الرئيس المصري إلى واشنطن، ولو ظل التوتر مكبوتاً لدى الجانبين بغية عدم الوصول إلى مفترق طريق. هكذا نلاحظ كيف دفعت الرؤية الأميركية للصراع العالمي من جهة، وخضوع تلك الرؤية ل «الاستثنائية» الإسرائيلية من جانب آخر، مسار العلاقات المصرية - الأميركية باتجاه تدهور تدريجي يقتضي إيقافه، ثم لاستعادة الحيوية الأولى لهذه العلاقة، تم إخضاعها لعملية تفاعلية تسمى في المجال الصناعى «الهندسة العكسية» وتعني تفكيك ما هو مركب، ثم الشروع في إعادة تركيبه بداية من آخر جزء تم تفكيكه. وتعني تلك الهندسة في سياقنا هذا، النهوض بمجموعة خطوات في اتجاه عكسي لكل ما تم في فترة التدهور، على ثلاثة أصعدة أساسية وهي أولاً الخلاص من هاجس الدور المصري في الحقبة الناصرية، وثانياً فك الاشتباك المراوغ لدى العقل الأميركي في التعامل مع مصر بين ثنائية الدور والدولة، وثالثاً تحرير العلاقات المصرية الأميركية من قبضة العامل الإسرائيلي. فعلى الصعيد الأول: يتوجب الخلاص من هاجس الدور المصري في الحقبة الناصرية، والذي تأسس - لظروف معقدة لم تعد قائمة الآن - في مواجهة الغرب وضدية الولاياتالمتحدة لأن استمرار الهاجس التاريخي مهيمناً على الحاضر السياسي يفرض قيوداً ضاغطة على الحركة نحو المستقبل. ذلك أن مصر، رغم صداقة عميقة مع الولاياتالمتحدة طرحت تأثيرات واضحة في العالم والإقليم معاً، ظلت في موقع الآخر في الإطار التكويني للاستراتيجية الأميركية، وهو آخر قد تدفع الوقائع إلى التعاون معه ولكنه يظل في التحديد النهائي «آخر»، حتى لو بدا في أحيان كثيرة شديد القرب من التصور الاستراتيجي الأميركي، وشديد الحرص على حماية الشرعية الدولية، مثلما بدت مصر في حرب «عاصفة الصحراء» التي شهدت تحالفاً كاملاً بين الطرفين في مواجهة العدوان العراقي على الكويت، ما كان يتيح الفرصة للانتقال بالعلاقة إلى إطار تكويني جديد ولكن ضاعت الفرصة وتم تفكيك التحالف بعد ذلك بقليل. لقد تصرف العقل السياسي الأميركي آنذاك على نحو ذرائعي، وبدلاً من اعتباره مصر والعرب من حولها شركاء في تحرير الكويت، ومن ثم في تكريس التحول باتجاه النظام العالمي الجديد، سعى هذا العقل إلى إسقاط ذلك الجديد سواء العالمي «نهاية الحرب الباردة» أو الإقليمي «هزيمة العراق أمام التحالف الدولي» على الواقع العربي خصوصاً «التسوية السلمية للصراع العربي - الإسرائيلي»، فسلكت الولاياتالمتحدة وكأن العالم العربي قد انهزم بالضرورة أمام إسرائيل، التي حازت القطبية المنفردة إقليمياً عندما انهزم الاتحاد السوفياتي أمام الولاياتالمتحدة التي حازت القطبية المنفردة عالمياً. وكما ادعت الرأسمالية المعولمة ضمن خطاب كوكبي الحق في قيادة العالم والتحكم في مصيره، باعتبارها نهاية التاريخ، أجريت محاولات لإخضاع العالم العربي للقيادة الإسرائيلية ضمن خطاب شرق أوسطي ادعى قدرته على صنع مستقبل الإقليم وصياغة مصيره، باعتباره يوتوبيا المستقبل. وكما تم تفكيك الكتلة الاشتراكية حول روسيا ليتبدى انكشافها أمام الغرب، تنامت محاولات تفكيك الكتلة العربية حول مصر ليتأكد انكشافها أمام إسرائيل. ومثلما تداعت الفلسفة الشيوعية أمام المذهب الفردي، اعتبرت القومية العربية مهزومة أمام العقيدة الصهيونية، ونظر إليها، بكل عمقها التاريخي وموروثها الثقافي، على أنها محض إيديولوجيا سياسية قابلة للهزيمة والتلاشي. ولأن القومية العربية انتماء وجودي لا فلسفة سياسية، وهوية حضارية لا مجرد إيديولوجيا، فقد بدت عصية على الهزيمة والكسر، وبدلاً من الاستسلام للهيمنة الأميركية بدلت ثوبها واستدعت احتياطها من المخزون الإسلامي، واستحالت في جزء منها أصولية جهادية تمارس التطرف وربما الإرهاب دفاعاً عن نفسها وكرامتها المهدورة. وفي هذا السياق أصبح هدف انتزاع الكتلة العربية من مصر أو تفكيك المجال العربي حولها، هدفاً كارثياً حتى لأميركا نفسها على ذلك النحو الذي تبدى قبل 11 أيلول (سبتمبر)2001 وبعده، ومن ثم يتوجب الكف عنه واستبداله برعاية أميركية لدور مصري جديد في قيادة الكتلة العربية نحو مثل الديموقراطية والتعددية في الداخل، والاستقرار والسلام في الخارج، كما ينتزع عوامل التطرف الديني والإرهاب العبثي في المجال العربي أو حتى المجال الإسلامي الذي غالباً ما يتأثر بالإسلام العربي. وعلى الصعيد الثاني يتعين فك الاشتباك بين ثنائية الدور والدولة، فالولاياتالمتحدة تسلك في علاقتها بمصر ازدواجية مربكة في شكل انتقائي ونفعي، فهي تطالب مصر بممارسة دورها العربي عندما تكون هذه الممارسة لوجهة نظر أميركية، وحينما ترتبط بنوع من التكاليف السياسية والاستراتيجية والديبلوماسية، كحرب «عاصفة الصحراء» مثلاً. ولكنها تتجاهل متطلبات هذا الدور في لحظات وقضايا أخرى تنبع أو تصب في الإقليم العربي وتمس المصالح المصرية، إذ تتعامل معها آنذاك بشروط الدولة الوطنية في تلك اللحظات التي تسمح لها، أي للولايات المتحدة، بحرية حركة منفردة، مثلما كان الأمر عند حصار العراق ثم احتلاله والذي هدد بقوة التوازنات القائمة في المشرق والخليج العربيين لمصلحة إيران، وهو أمر وعته مصر مبكراً، وحذرت منه الولاياتالمتحدة التي لم تدرك ذلك إلا بعد التورط المباشر في العراق. كما انعكست هذه الازدواجية في مظاهر عدة خصوصاً في التسعينات، التي شهدت وفي شكل تدريجي سعي الولاياتالمتحدة إلى تغيير قاعدة المثلث المكون من إسرائيل ومصر نحو قاعدة مكونة من إسرائيل وتركيا، معها هي ذاتها كرأس للمثلث الحاكم للاستراتيجية العامة في الشرق الأوسط. وقد صاحب ذلك إهمال متنامي لوجهة النظر المصرية في قضايا عدة لمصلحة التصور الإسرائيلي، وربما التركي. بل أنها قامت برعاية الاتفاقات العسكرية بين إسرائيل وتركيا في نهاية العقد رغم سياسة مصر القائمة على معارضة مثل هذه التحالفات التي ثبت أنها غالباً ما تهدد الاستقرار الإقليمي، وهو أمر كاد يحدث عندما أوشكت تركيا على العدوان على سورية بتحريض إسرائيلي، وبذريعة وجود عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني على أراضيها لولا مبادرة مصر الخاطفة آنذاك للوساطة، والتي تمكنت من شل العدوان وتجميد التدهور، وفتح صفحة جديدة بين البلدين المسلمين والجارين، على نحو يمكن تركيا الآن من لعب دور الوساطة نفسها بين سورية وإسرائيل، ترسيخاً للاستقرار الإقليمي. وأما على الصعيد الثالث فثمة الفريضة الغائبة وهي تحرير العلاقات المصرية - الأميركية من قبضة العامل الإسرائيلي، بحيث لا تصبح إسرائيل وموقفها من مصر، أو الموقف المصري منها هو ترمومتر هذه العلاقة. ويقتضي ذلك أمرين: أولهما هو إرساء هذه العلاقة على قاعدة الشرعية والقانون الدوليين، ليصبح مؤشرها الجديد هو مدى مساعدة مصر لأميركا في تطبيق الشرعية الدولية في الإقليم، والعمل على تحقيق سلامه واستقراره. ويفترض ذلك أن يتم تطبيق القانون الدولي على الصراع العربي - الإسرائيلي باتجاه حل الدولتين كاملتي السيادة، بغض النظر عن طبيعة الارتباطات السياسية القائمة بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل. وثانيهما هو إخضاعها للمنطق الاستراتيجي بدلاً من الأوهام الخلاصية، ونعني ضرورة البرء من تأثير الصهيونية المسيحية. ذلك أن الولاياتالمتحدة كثيراً ما تتعرض إلى لحظات اختيار بين مصر وإسرائيل، وهي تدرك أن كلتيهما لديها التصور الاستراتيجي لمستقبل المنطقة، وأن تصوريهما غالباً ما يختلفان أو يتناقضان، وأن التصور المصري المؤسس على ثلاثية السلام، والاستقرار، والاعتدال هو الأقرب للاستراتيجية الأميركية. بل هو الأخطر، تدرك الولاياتالمتحدة أن إسرائيل إذا ما تركت لها المبادرة ربما تتصرف ضد الرؤية الأميركية للعالم، وعلى رغم ذلك فإنها لم تمنح مصر قط حرية المبادرة الإقليمية بديلاً لإسرائيل، وطالما أخضعت التصور المصري لنقيضه الإسرائيلي أو سعت فقط إلى التوفيق بينهما مع إعطاء الأولوية لإسرائيل التي طالما نظر إليها العقل الغربي العام باعتبارها البنت البكر للحضارة الغربية، وربيبة جذرها اليهودي. في ما يعتبرها العقل الأميركي العام/ البيوريتاني تلك المدينة المقدسة القديمة فوق التل، والتي لا تعدو التجربة الأميركية إعادة تجسيد حديثة لها، مثلما تعدو إسرائيل الآن بمثابة تجسيد معاصر لأميركا الحديثة. ناهيك عن الأصولية الإنجيلية وعقيدتها الألفية التي تعتقد بأن وجود إسرائيل وهيمنتها محض تبشير بالمجيء الثاني للسيد المسيح حاكماً أرضياً للعالم لألف عام سعيدة. إنها أساطير تكوين قديم، وذكريات نشوء جديد تبقى معها إسرائيل هي الأقرب إلى القلب الأميركي، وإن كانت هي الأبعد عن العقل الاستراتيجي. وفي المقابل تبقى مصر، القوة التليدة، ذات النزعة التوحيدية للمنطقة العربية، وصاحبة المدرسة الوسطية في الحضارة الإسلامية، هي الأبعد عن القلب حتى لو تماهت مع العقل الاستراتيجي. إن مصر لا تطلب من الرئيس أوباما موقع الدولة الأولى بالرعاية، ولا من العقل السياسي الأميركي معاداة إسرائيل، ولكنها فقط تطالبه بتبني المصلحة الوطنية الأميركية وصياغة علاقته بنا في ضوء تقييم واقعي لما تمثله من موارد وأعباء، كما يصوغ مواقفه منا في إطار تصور موضوعي لحجم التناقضات التي تحكم رؤية الطرفين للعالم، من دون خيالات دينية أو أوهام سياسية تمثل غطاء كثيفاً يعمى عليها. ففي هذا السياق ربما تستطيع مصر، أن تكون شريكاً أساسياً في رؤية أميركية جديدة للعالم تنهض على أساس العدالة الدولية، والعالمية الإنسانية، في ما تخلو من أساطير التكوين، وأوهام التاريخ. * كاتب مصري.