بعيداً عن جدل قدرية الإنسان، وهل هو مسيَّر أم مخيَّر، في حياة كلٍّ منا ثغرات تؤرِّقه، وفيها أيضاً تلال من النعم نستشرف منها الخير والسعادة. قد تكون الطبيعة البشرية مجبولة على حالة من السَّوية؛ فترى أن كل ما هي فيه من نعم الحواس والصحة، والأهل، وتوفر أساسيات العيش كالأكل والشرب والسكن، وصولاً إلى أصغر الأمور كتوفر المياه، هي أمور بدهية، وهي حقوق له لا يستدعي منه التوقف عندها، أو العناية بها، أو الشكر عليها. هذهِ الحالة موجودة في نفوس معظم البشر، وهي لا تنتفي غالباً إلا بفقدان شيء منها، أو الوعي بها؛ أيُّ فقدان يشعر به الإنسان سواء فقد أحد أحبته، أو حواسه، أو ضاقت أحواله، أو حتى انقطع الماء عن بيته، يكشف هشاشة هذا الكائن من قوته، ويترك ثغرة أو هوَّة في النفس، هذهِ الهوَّة قد تكون منبعاً لمشاعر النقص والسلبيَّة المولِّدة أمراضاً من التذمر والعجز والحسد، وقد يتدارك الإنسان هذهِ الهوّة ليبني عليها جسراً طموحاً يتجاوز به ما فقده. ذلك الخيار الذي نتخذه بالجمود أمام العجز، أو بالحركة نحو التجاوز، هو ما يحدد مكانتنا الحقيقية وعلاماتنا الفارقة في الحياة. الوعي بما نملك، وما نفقد، وما نريد، هي أدوات لتجاوز حالة العجز، هي عبارة عن دراسة جدوى، وتقييم ذاتي لمشروع حياة لا تنقص بالعمر وحده، بل بحالة حارقة من التذمُّر و«النق»، وليس النقد، وشتَّان بين النقد الكاشف للخلل والعيوب التي تجتاح ذواتنا، وبين النقد البنَّاء المتجاوز. الوعي بأن الكمال ليس من صفتنا كبشر، وليس من صفة ذوينا، يوفر علينا وعليهم الكثير، ويجعلنا أكثر تقبلاً لهم، وأكثر سعادة مع أنفسنا، وأكثر إدراكاً لما تسلبنا الحياة من ضرائب، وما تمنحنا من رأس مال قد يضيع هدراً في زوبعة الفقدان. بذلك لا يكون الشكر إلا حالة من الوعي، المتَحقق بالفعل، لا بالقول وحده، ومن التفكير الإيجابي الذي ينظر لكل ما لدينا من هِبات، فيستثير مواهب هندسة الذات وبناء صرح الحياة. الوعي مفتاح خزينة من النعم «البدهية» التي تتحفز، وتكبر، وتنمو بتكرار النظر إليها، وتقديرها، تلك التي تمنحنا إرادة الإنجاز، وتُقوِّينا لاجتياز وعورة الدرب… بذلك نفلح في تهذيب النفس وتشذيب أغصانها اليابسات لئلا تحترق بلهيب الفقدان، حتى ليغدو هو نفسه، سبباً للتميُّز والإبداع، ويجعل من النفس فرشاة، ترى في كل حالاتها ورقة بيضاء ودعوة لرسم جميل، وبصمة لا تتكرر، حيث خُطَّت بيد الفقدان، والإرادة، والوعي.