«المثقف الإنسان» تلك الحقيقة البدهية جداً، والسريعة الذوبان جداً! أنا لست هنا لأنسنة المثقف، لكنني أتحدث عن العلاقة الأبدية بين الإنسان والمعرفة، إذ بدأ الفصل الأول لقصة العلم من رحم الجهل. (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً) لكن العلم هو أول شيء يلازم هذا المخلوق (خلق الإنسان علمه البيان) وهو أول مهام الرسالة (اقرأ باسم ربك الذي خلق) وأنت تتأمل كيف وردت «خلق» في الموضعين. فمعنى القول «المثقف إنسان» أي صاحب رسالة يحقق بها وجوده الفردي والجمعي، ولديه طبائع الإنسان وخصائص البشر، فهو لا ينفك عنها وليس بمنأى عن تأثيراتها وتدخلاتها. ومن هنا فالثقافة ينتجها البشر للبشر، وهي اسمية محايدة، فثقافة الخير خير وثقافة الشر شر، كما الإنسان أيضاً محايد (وهديناه النجدين). بهذا المفهوم نفتح الباب أمام نقد المثقف في أدواته، وفي مخرجاته. نقداً سيكون هو أفضل ما نقدمه له. المثقف ربما كان في زمن مضى يستطيع أن يجعل من الثقافة هواية ويزاول معها مهنة أخرى، وربما في ذلك الزمن يستطيع الإنسان تحصيل عيشه وتحقيق وجوده من دون أن يكون مضطراً إلى المعرفة، أما اليوم وفي عصر القوة المعرفية والسرعة والمصلحية، وحيث تحول الجميع - المثقف وغيره - إلى عمال معرفة، فقد تغيرت الموازين وتبدلت الأدوار، وتشكلت القوى بطريقة مختلفة. مثقف اليوم مطالب بأن يعود على نفسه بالمساءلة والنقد، نقد للذات ونقد للمحتوى ونقد للمخرجات. التكوين الذاتي للمثقف ومركباته الشخصية، وكيف يدرك الأشياء؟ وكيف يراها؟ وكيف يتعامل ويشكل علاقته معها؟ وهل يسمح لنفسه بالتحول من دور لآخر؟ أي من اللاعب إلى المشاهد؟ بمعنى هل سيكون المثقف جريئاً في طرح أسئلة الثقافة على ذاته، بدلاً من أنه كان يطرح أسئلته هو على الثقافة؟ إنه إن فعل ذلك فهو مثقف يعي واقعه ويستشرف مستقبله، وهو الحقيق بأن يدلف إلى عالم يتحرك ويتحول ويتغير بسرعة غير معهودة، وأدوات غير مألوفة. وأياً كان المثقف «دينياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً» فالأمر واحد باعتبار أن الثقافة منظومة تتداخل معطياتها وتتأثر مخرجاتها. وكما يسائل المثقف نفسه حول تكوينه الذاتي، فإنه يطرح أسئلته على المضمون والمحتوى الذي يختزنه، أفكاره وطريقة استقبالها وإيداعها، أدواته وتفاعلاته، مواقفه وتأثيراته. والسؤال المفصلي: هل أن ما لديه وما يفكر فيه ينفعه أو ينفع مجتمعه؟ فالأمر كما يقول «فيليكس إيشباخر» ليس النجاح فعل ما يمكن فعله، ولكن النجاح فعل ما ينفع فعله. إن إبداعه وبراعته في قدرته على تجاوز ما لا ينفعه ولا ينفع مجتمعه ولا يؤسس لمستقبل أفضل. وأما ركوده على محتويات باردة أو فاقدة لمعناها، أو أن يظل محبوساً لفكرة ضعيفة أو كاذبة خاطئة، سيشكل منه عبئاً على الثقافة والمجتمع، فالإعاقات الفكرية والإصابات الذهنية هي أخطر ما تتلقاه المجتمعات من مثقفيها. يجب أن نعترف أن لدينا من تجمد على مفاهيم وصنمها ولم يجدد في المعاني أو يحرك في الدلالات، كما أن لدينا من يردد الأشياء من دون وعي لتطوراتها، أو يكتفي باسمية الأشياء من دون حقائقها، وشاهد الحال في وسائط النشر والإعلام، فالبعض من المثقفين لا يزال حارساً لأفكار قد تطورت وتغيرت، أو أفكار تجاوزتها المعرفة وأسقطها العلم. وإذا كان المثقف - كما هو المفترض - صاحب الرسالة التي يترك أثرها في الناس والحياة، كان لا بد له من مراجعة فاحصة للمخرجات التي ينتجها وصلاحيتها للزمان والمكان والأحوال والأشخاص. لا جدوى من مثقف لا يدري واقعه ولا يفهم مجتمعه، ولا يتصل به إلا جالداً أو متهكماً من دون أن يسهم هو في حراك تنموي وأفكار نهضوية يفيد منها الناس ومؤسساتهم وأصحاب القرار وذوي الشأن. وإذا كان للمثقف أسئلته التي يطرحها على الثقافة، وللثقافة أسئلتها التي تطرحها على المثقف، فإن السؤال عن هدف الثقافة هو السؤال الأهم الذي يطرحه الناس على الثقافة والمثقف. وفيما أرى فإن الأجوبة ليست بكافية ولا واضحة، ما جعل الناس يحملون انطباعاً سلبياً عن الثقافة والمثقفين. الذي أفهمه أن الثقافة تهدف إلى خلق الوعي لدى الناس، وعياً يشاركون فيه ليس في السلوك والتطبيق فحسب، ولكن بالمشاركة والمثاقفة والتساؤل، بل والمحاسبة على النتائج والآثار. للأسف، فنحن عندما نطرح مسألة الوعي نناقشها في شكلها النهائي الإخراجي، أي: الأمر كما يجب أن يكون، لكننا لا نناقش الوعي كيف يكون!! وكأننا ننتظر الوعي كما ننتظر الوحي! إذا كان هدف الثقافة خلق الوعي، فإن سيلاً من الأسئلة والحوارات والمداولات يجب أن يتكرر ويتردد في أندية الثقافة ومجالس الفكر، وفي ملتقيات الناس وقنوات التواصل، وهو الأمر الذي يجب أن يكون هاجس الخطط التنموية والقرارات الحياتية. [email protected]