في مواقع التواصل الاجتماعي ضخ عاطفي ممنهج لإيجاد حالة الغليان والتذمر العام انعكس على مشاعر الشباب الذين يعيشون أوضاعا مستقرة، فيدرك المتابع الفارق بين الواقع الذي يعيشه الشباب وشعوره الذي يبديه حين تدخل في المنتديات الحوارية، في مواقع التواصل الاجتماعي تجد حالة غير عقلانية من التذمر، هذه الحالة تذكرنا بقول الشاعر: كل من لاقيت يشكو دهره ليت شعري هذه الدنيا لمن؟ وحين أقول إن "التذمر" هو حالة غير عقلانية، أقصد بذلك طغيان الشعور النفسي على الحالة الواقعية والعقلية، بحيث يشعر الإنسان بشيء ما لكنه لا يمكن أن يفسره تفسيراً منطقياً يتسق مع حالته الواقعية، فيعيش حياته متذمراً، يقطع أيامه بالتأفف من كل شيء، لا يميز بين ما يستحق التذمر وما لا يستحقه، فإن كانت حالة التذمر مقبولة من بعض الأشخاص الذين تنقص ضروراتهم في الحياة، فكيف نفهم حالة التذمر لأناس توفرت لهم كل وسائل العيش الكريمة، وعاشوا في أوساط أسر ثرية، ودرسوا في أحسن المدارس، وتوظفوا في أحسن الوظائف، وتيسرت لهم كل سبل السعادة، فانقلبوا عليها بالتذمر وكفران النعمة. إن الحالة التي تمر بها المنطقة العربية تؤول إلى شيء من هذه الظاهرة الغريبة، فتسارع الأحداث وقسوتها، ونشاط الحركات الجماهيرية التي بدأت تصور الواقع على أنه سيئ في كل مجالاته، وأن فساده مطلق؛ تعكس هذا الشعور على العموم، فيشعر الإنسان بضنك في الحياة دون أن يكون هذا له مبرره الكافي. في مواقع التواصل الاجتماعي هناك ضخ عاطفي ممنهج لإيجاد حالة الغليان والتذمر العام انعكس على مشاعر الشباب الذين لا يزالون في مقتبل العمر، وفي أوضاع أسرية مستقرة، فهم يدرسون في الجامعات، أو في بعثات ومع ذلك يتكلم الواحد من هؤلاء وكأن هموم الدنيا كلها على رأسه وأنه قد حمل هماً ثقيلاً تنوء بحمله الجبال الراسيات، فيدرك المتابع الحالة الفارقة بين واقعه الذي يعيشه وشعوره الذي يبديه في حالة تحتاج إلى دراسة عواملها وكيفية مواجهتها. إن إدراك حالة القصور والفساد في أي مجال من المجالات لا يعني أن يجعل منه مادة تحقن فيها مشاعر الناس في الصباح والمساء، وميزان العدل والحقيقة يقتضي أن ننظر إلى أي مشهد من المشاهد بنظرة متوازنة تنظر إلى الإيجابيات والسلبيات، ثم الهدوء في النظرة التي تساهم في تلمس الحل للمشكلات، فإن غلبت النظرة السوداوية اليائسة البائسة فإنها تقلب حياة الناس إلى جحيم لا يطاق، وتنعكس على إنجازه وعطاءاته، وتنقله في مشاعره ليرتحل من واقعه إلى واقع مخملي مفترض، يعيش في عالم المثل المتعالية التي لا يمكن أن تتحق على الأرض، فتكون حياته ضنكاً. لقد وقع الكثير في "فخ الإعلام الجديد" الذي يوتر المشاعر، ونظرة سريعة وراصدة لبعض الناس ينتج منها إدراك هذا الأثر، حين يدخل الإنسان إلى هذه المواقع بنفسية مستقرة هادئة، ثم تلحظ عليه حالة التوتر والغضب والثورة العارمة الداخلية، إنه كيان مختلف، قد صنع في دهاليز تدار من خلال أناس يدركون كيف يؤثرون على مشاعر الناس ويقلبون أمزجتهم بالمؤثر النفسي والفكري والشعوري، وقد يحيل هؤلاء العابثون مشاعر البشر الكثيرة إلى قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة، إضافة إلى ما يحدثه ذلك من اختراق للسلم الاجتماعي والأسري الذي يفسد العلائق بين الأبناء وآبائهم وأمهاتهم وعلاقتهم بكيانهم الأسري. إن "التذمر" حالة إنسانية لا يمكن أن يقضى عليها بالمثالية الزائدة، ولكنها كذلك كأي عرض من الأعراض التي تصادف الإنسان قد تنقلب إلى أن تصبح "مرضاً" يقضي على حياة الإنسان والآخرين، حيث تختل عنده الموازين فلا ينظر إلا إلى مواطن الفساد والخطأ في الإنسان والواقع، ويحيل كل حسنة إلى سيئة، وكل محمدة إلى مذمة ومنقصة، لا يملأ عينه شيء، ولا يرضي غروره شيء، وليس لمطالبه وأمانيه سقف يمكن أن يحقق من خلاله الحد الأدنى من الرضا في الحياة، إذ الحياة في طبيعتها مجبولة على الأكدار وتحتاج إلى رضا وتسليم وصبر ومجاهدة بنفس واثقة ومؤمنة، لا تستسلم للمؤثر بسهولة، وتتبصر حقيقة نعم الله عليها التي لا تعد ولا تحصى (وإن تعدو نعمة لله لا تحصوها) حتى لو أصابها الضعف في جانب منها، أو اعترض حياتها المنغص والمنكد، وتتذكر النعم التي يسبغها الله على الإنسان في صحته وبدنه ونفسه حين يقارن ذلك بمن حوله من الأفراد والمجتمعات، "من بات آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه وليلته، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" كما يقول عليه الصلاة والسلام كما عند البخاري في الأدب المفرد. إن من السنن الاجتماعية التي أودعها الله في الحياة تفاوت الناس في أرزاقهم وأموالهم (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق)، فخلق الناس منهم الغني ومنهم الفقير، وجعل هناك أسباباً لتغيير الحال من خلال فهم السنن والعمل والإنجاز، وقد يحصل الفقير المتعة في الحياة والرضا بها مالا يحققه الغني، ولكن البعض قد يفسد حياته بنفسه حين يتطلع إلى الوصول إلى مستوى الآخرين دون بذل للأسباب والسنن، فيقع في "الحسد" الذي يحرق قلبه وينغص حياته ويقعده عن العمل حين يتمنى زوال نعم الله عن الآخرين، أو يتطلع إلى ما في أيدي الناس بدلاً من السعي في الأرض، وفي هؤلاء يقول الله تعالى: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى.. الآية)، فيطمئن المؤمن حين يدرك أن الحياة مهما سعى فيها الساعون وبذل فيها الباذلون فإنها إلى زوال يرتحل عنها الغني والفقير في مصير واحد، ولا يبقى إلا الحياة الآخرة (وما هذه الحياة الدنيا إِلاَ لهوٌ ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون).