سأجرب أن أطرح على نفسي السؤال التقليدي السهل/ الصعب «لماذا تكتب؟» وسأحاول فيما يلي من سطور أن أجيب عليه: أكتب لأنني أنسى. أكتب لكي لا أنسى. أكتب لأنني لم أعد أثق بذاكرتي. لأن الذكريات صارت تختلط علي، وتغيم وراء زجاج الماضي الذي يزداد قتامة كل يوم. أكتب لأعرف كيف انقضت سنوات عمري، وكيف مرت أيامه ولياليه التي صارت أكثر من تجشم عناء إحصائها. أكتب خوفاً من أن أستيقظ ذات صباح وأجد نفسي بلا ذكريات أحن إليها، أو أعزي نفسي بأنني صرت بعيداً عنها. أكتب كي أتحرر من أسر لحظتي التي تحيط بعنقي مثل طوق مدبب يخزني كلما تلفّت. أكتب لأهرب من إحساسي الجارف بالخواء الذي يملؤني حتى ثمالة روحي. أكتب إمعاناً في حنيني إلى أمس لن يعود، وخوفي من غد قد لا يأتي. أكتب لا حباً في رثاء ما لا يرجع، أو مديحاً لما لا يؤوب. أكتب لأن الذاكرة لم تكن وفية يوماً ولن تكون. ولكن السؤال الذي ما فتئ يؤرقني ويقض مضجعي هو: هل ما أتذكره الآن عن الأمس هو ما حدث فعلاً أم هو تخيلي لما حدث؟ هل هو نسختي الخاصة بي لما أتصور أنه حدث بالفعل؟ أليس من الوارد أن ذاكرتي تتآمر عليّ؟ أليس من الممكن أنني اختلقت، غير عامد بالضرورة، بعض الذكريات التي كنت أود بشدة لو أنها حدثت؟ وفي المقابل، أليس من الممكن أنني دسست ببعض الذكريات الأليمة في تلافيف دماغي التي لا يصلها ولا يسبرها ضوء الذاكرة الشحيح؟ هل أنا الطفل الذي لا تزال بقايا منه عالقة بذاكرتي؟ هل الدرب الذي تلعثمت فوقه خطاي؟ هل العتمة التي أطلقت وحوشها لتبث في نفسي الذعر، وتطلق العنان لقلبي ليتسارع خفقه كالمحموم؟ هل حضن أمي الدافئ التي ضمتني إليها وهي تبكي، بعد أن عاقبتني بالضرب لجرم لم أعد أتذكره فبكيت؟ هل وجه أبي وهو يتصنع الغضب مني لأنني «حبيت بنت الغراش» «الغرشة باللهجة الأحسائية هي القارورة، وحبيت أي قبّلت» ليصفر لوني وأتلعثم وأقسم بأنني لم أفعل ذلك، لتنفرج أساريره بعد ذلك وينفجر ضاحكاً؟ كثيرة هي الذكريات، أو لأقل شظاياها المتبعثرة لأكون أكثر دقة وصدقاً، التي تراودني وتطرق نوافذ وعيي بين الحين والآخر. بأيها أثق، وأياً منها أصدق، ولأيها أركن وألوذ إذا ما «ادلهم في دمي الحنين» إلى الماضي الذي أفلت شمسه وانطفأت نجوم لياليه؟ أحد الشعراء الذين أحبهم يقول إنه يكتب ليكتشف ما يريد قوله، فهل من الممكن أن يكتب المرء لكي يتذكر؟ ربما. كل ما عليَّ فعله هو أن أجرب، ولا أحسب أن خسارتي ستكون فادحة، وعلى الأرجح أنني لن أردد بيني وبين نفسي: «خسرتُ ولم يربح الأمس شيئاً» مع الاعتذار من الراحل الكبير محمود درويش.