تتبادر في أذهاننا أحداث ومواقف ماضية كنا قد تظاهرنا بنسيانها وعدم تذكرها فتطفو على سطوح ذاكرتنا المملوءة بزخم الأحداث والذكريات التعيسة والمواقف الحزينة التي مررنا بها خلال سيرنا بين طرقات الحياة. كثير منا يعاني من عدم النسيان، وقليل منا يمحو وينسى بسرعة، وكأنه طوى صفحة من كتاب، أو ألقى بمحتويات ذاكرته في بحر هائج، كي يكون على يقين من عدم عودتها، فالسعيد حقاً هو من اتخذ النسيان سلاحاً ومضاداً روحياً للجراح المتكدسة داخله وبلسماً عطراً يرطب ذاكرته المزدحمة. تقول أحلام مستغانمي في كتابها «نسيان. كوم»: «ما النسيان سوى قلب صفحة من كتاب العمر. قد يبدو الأمر سهلاً، لكن ما دمت لا تستطيع اقتلاعها ستظل تعثر عليها بين كل فصل من فصول حياتك». نحن في زمن تتراكض فيه الشهور والسنون، زمن الالتزام بوعود البقاء لبضع ذكريات كانت قد سكنت ذاكرتنا المرهقة من ذكريات قديمة حلت محل الجديدة، حتى أصبح هذا الكم الكبير من الذكريات والتمسك بها يهدد حياتنا ومستقبلنا، فنظل متشبثين بها خوفاً من نسيانها. كيف ذلك ونحن نمر في حياتنا بما هو أجمل منها، فلا نسمح لأنفسنا بمسح القديم كي يحل الجديد، وكأن حياتنا قطار لا يتوقف، فحتى القطارات تمر بمحطة وتتجه لأخرى. فماذا عنا كبشر، فنحن قادرون على المسح بسهولة، بمجرد دخول ذكرى جديدة، فتكون لدينا الفرصة للاستغناء عن القديم حتى وإن كان من أجمل الذكريات، فالتفاؤل مطلوب بما هو قادم، والحياة لا تسير على وتيرة واحدة، فما ينتظرنا أجمل مما قد فاتنا، والنسيان يساعدنا على متابعة حياتنا دون أي أعباء على ذاكرتنا المملوءة. يقول جبران خليل جبران: «النسيان شكل من أشكال الحرية»، فحينما نصبح أكثر نسياناً سنكون أكثر حرية، بعيدين أشد البعد عن مكدرات الأمس واليوم، وإن كنا غير ذلك، فحتماً سنجلب لذاكرتنا الشيخوخة المبكرة لعدم وجود الإلغاء والمسح في قاموسنا. تقول مستغانمي في ذات الكتاب: «الاستغناء بداية النسيان»، فكونوا كثيري الاستغناء تكونوا كثيري النسيان، يقابله فرح لا يزول وسعادة لا تهرم، بمجرد رغبة عارمة وإصرار جامح سنستطيع النسيان، ولن نبقى معلقين على مشاجب الذكريات الآسرة. لذا فإن ما نحتاجه كل يوم وكل شهر وكل سنة، مسح للذاكرة، ووضع استراتيجية مناسبة في ترتيب ملفاتها وإلغاء ومسح ملفات قديمة كانت قد خُزنت في مراكز الذاكرة الخاصة بنا!