لم تعد الأفكار الكبرى التي راجت في القرنين التاسع عشر والعشرين في أوروبا تحتل الآن موقعا متميزا في الخطاب الفكري، وتلاشت تلك الفكرة التي تدعو إلى الإيمان بالبروليتاريا كطبقة اجتماعية فاعلة تحرر العالم من الاحتكار الرأسمالي للاقتصاد، وكذلك الفكرة التي ترى التاريخ على أنه يسير إلى غاية محددة،عند هيغل نجدها تنتهي إلى العقل، عند ماركس تنتهي إلى الطبقة، وفي نظرية فوكوياما نهاية القرن الماضي ينتهي التاريخ عند الليبرالية والديمقراطية والنظام الحر للاقتصاد وذلك حينما ولت المذاهب الشمولية في الحكم والسياسة والاجتماع والفكر مع نهاية الحرب الباردة بعدما تفتت الاتحاد السوفييتي وسقط جدار برلين. أيضا هناك أفكار جرى اعتبارها مسلمات لم يتم زعزعة القناعة منها إلا بعد أن مرت أوروبا في حربين عالميتين جعلتا من ثقافتها مختبرا للنقد والمراجعة، ومنطلقا للتفكير والمساءلة، فمن أهم هذه الأفكار هي ما يسمى «بالمركزية الغربية» وهو مصطلح يشير إلى تلك النظرة الاستعلائية الكامنة في الثقافة الغربية إلى الآخر غير الأوروبي من شعوب العالم، وأكثر ما تتضح هذه النظرة في المشروعات الثقافية التي ارتبطت بالاستعمار من نظريات في السسيولوجيا والانثروبولوجيا والفلسفة والتاريخ. صحيح أن هناك مشروعات متميزة أفادت المعرفة وأفادت تطورها على صعيد عالمي، وكانت أهدافها ترتبط بالحقيقة العلمية إلا أنها على العموم جرى استثمارها لاحقا من طرف خطابات سياسية عدائية ضد الآخر وخصوصا الإسلامي الشرقي. ولا أريد هنا أن أفتح هذا الملف الذي يفكك العلاقة المشبوهة القائمة على القوة بين الاستعمار والمعرفة، فقد جاءت نظرية ما بعد الاستعمار لتقوم بهذه المهمة، وكتابها الآن معروفون على مستوى العالم ونظرياتهم مؤثرة وتناقش أفكارهم في جميع الحوارات التي تقام في شتى عواصم العالم.بدءا من كتابها المؤسسين فرانز فانون، الشاعر إيميه سيزار، الشاعر سنغور، إلى كتابها المعاصرين بيل أشكروفت، هومي بابا وآخرين غيرهما. ناهيك عن نقاد النظرية النقدية أو ما تسمى بمدرسة فرانكفورت التي تأسست في ثلاثينات القرن الماضي في ظل صراع وأزمات ستنتهي إلى حرب عالمية ثانية. نقاد هذه المدرسة عرفوا بنقدهم الحاد للثقافة الغربية العقلانية وربطوا نظريتهم بمفهوم التنوير المتحدر من عصر الأنوار، وتأثروا بماكس فيبر عن مفهومه في عقلنة المجتمع عن طريق التطور التقني، واحتفوا أيضا بفرويد مستثمرين نظريته في اللاوعي بجانب المادية التاريخية في الماركسية ليخطوا لأنفسهم خطا تجاوزوا فيه الدراسات الوضعية من جانب والدراسات المثالية من جانب آخر.وقد كان أكثرهم تأثيرا هو هربرت ماركوزه في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد، رغم الأثر الذي تركه هوركهايمر وتيدور أدرنو في كتابهما المشترك جدل التنوير وبحوثهما المختلفة، إلا أن ماركوزه كان سببا مباشرا في ثورة مايو 1968 في فرنسا. لقد فاجأ مركوزه الجميع بالحديث عن غياب الحرية، غياب يصفه بالسلس والناعم والمعقول الذي يختفي خلف سياق ديمقراطي امتازت به الحضارة الصناعية الغربية. فالمفارقة التي نخرج بها معه أنه كلما أصبحنا أكثر معقولية أصبحنا أكثر قمعا للفرد. لقد اكتشف الغرب أن الأفكار الكبرى التي تراكمت في ثقافته لم تكن سوى أحد الأوهام الكبرى التي لولا تطورات الفكر لديه، منذ الإغريق إلى مشارف القرن العشرين لما رأينا مسار تاريخ الفكر لديه ينزل من قمة الجبل ليسكن بين الناس وفي البيوت والشوارع. يتخلى عن الأفكار الكبرى ويتنازل عن نرجسية المثقف العارف بكل شيء إلى الأفكار الجزئية التي كلما تعمقت في معرفتها اكتشفت أنك لا تعلم شيئا. هذا الإحساس بمنزلة المثقف الحقيقي معدوم في الثقافة العربية، مازالت الأفكار الكبرى تفعل فعلها في الخطاب الثقافي والاجتماعي من قبيل فكرتين أجد أنهما ما زالتا تحتلان مساحة كبيرة في تفكيرنا وتصوراتنا، وهما فكرتان سليلتا موروث تاريخي له ثقله ووطأته منذ تأسيس الإسلام. الفكرة الأولى تتعلق بالتقديس، والأخرى تتعلق بالشخصنة. فيما يخص الأولى يمكن النظر إليها من جهتين: جهة تتصل بتقديس الذات، وجهة تتصل بتقديس رجال الحكم والسياسة، وكلا الجهتين تقوم على اعتبار المعرفة هي مجرد وسيلة وليست غاية في حد ذاتها. من هنا تنهض حقيقة مؤلمة تأتي كنتيجة لما سبق، وهي انكسار الكثير من تجارب المثقفين والمبدعين، وتلاشي تجاربهم في غياهب النسيان بسبب ما يمكن تسميته غلبة الوازع التاريخي على الوازع الديني في شخصياتنا الفكرية، أي غلبة الموروث التاريخي عن أخلاق المعرفة المرتبطة بالسلطة على أخلاق المعرفة المرتبطة بالقرآن والسنة النبوية في عموم الشخصية العربية. ودون أدنى شك نرى هذه الفكرة تفضي بالضرورة إلى الأخرى وهي تحويل قضايانا إلى مسارات شخصية. لذلك من الطبيعي ألا ينمو حوار حول قضية واحدة يشارك فيها جميع الأطراف والتيارات الفكرية المختلفة. ينقطع الحوار بمجرد ما يتم رؤية الظاهرة من منظور الشخصنة لأنه يصطدم بجدار الذاتية الضيق. بالتأكيد تحتاج منا هاتان الفكرتان إلى التدليل بأمثلة مستلة من خطابنا الثقافي، ولكن في مقالة أخرى.