لا يساق مثالا محمد عابد الجابري وعبدالله العروي من باب الشخصنة، بقدر ما سيفيدنا ذلك في التدليل على انقسامات المثقفين تجاه المسألة التراثية والموقف منها، الأمر الذي عطل لدرجة ما، الانعتاق من أسر التاريخ العربي، ففي الجانب المقابل للعروي وأنصار التيار الحداثي القطعي والداعي للتعلم من الغرب، سيقول لنا الجابري في شكل أقرب إلى التبسيط والكلام في العموميات غير المحبذة» ما أسهل الهروب إلى الأمام تحت اسم ومساعي ومبادرات تأسيس التاريخ الجديد، التاريخ الذي يقطع مع الموروث في كلّيته ليتبنى موروث الآخرين وثقافتهم»... تفاصيل موقفه من ثقافة الآخرين يجده قارئ «تكوين العقل العربي» والموقف الذي تأتى عن العموميات المذكورة آنفاً، بصورة رفض لكل من يتبنى مظهراً أو منهجاً فكرياً غربياً، ودمج للاستشراق بالليبرالية الوليدة والمجهضة لاحقاً في المجتمعات العربية، وهو هنا يخالف حتى دعواته إلى القياس عبر قياس «الغائب على الشاهد»، وهو المنهج الذي يعتبر برأيه المنهج الحق للبحث العلمي. وهو ما استند إليه في كتابه «نحن والتراث»، والذي كان التمهيد الفكري لموسوعته «نقد العقل العربي» والتي استثارت معارك فكرية طاحنة كان أبرزها سجالاته مع جورج طرابيشي في موسوعة الأخير «نقد نقد العقل العربي»، ما شكل مشروعاً مغايراً بحد ذاته. ما يدلل عليه المشروعان، النقد ونقد النقد، ان العلاقة مع التراث كانت إشكالية المثقف العربي تاريخياً وآنياً، ودائماً على ما يبدو، وسط نزعات المخاتلة والعودة دونما حرج إلى الماضي وتبريره في شكل يتبدى فيها الجابري وغيره، اقرب إلى رجال دين يتمذهبون وراء دواعي انفتاح شكلي وتوفيق وموازنة مجتمعية وأيديولوجية اكثر منها تاريخية وإبستمولوجية، حفاظاً على خصوصيت «نا» وكل ما هو ذو علاقة بضمير الشخصنة «نا»، وهي الشخصنة الثقافية المستشرية في عقل جمعي سلفي يجد أفضل الأجوبة الجاهزة على أسئلته السهلة في المواضي والعودات المتفشية لها. كما أن ما يدلل عليه المشروعان، مستوى الانقسام الفكري والمعرفي في صفوف المثقفين العرب، من أنصار حداثة تجد تسويغها في تجارب غربية ناجزة من جهة، وسلفية وإن غير معلنة تعيب على المثقف التنويري الاستفادة وتمثل تجارب التنوير الفولتيرية وما شابه في أوروبا من جهة ثانية. كما دمج الليبرالية وقيم التنوير بالاستشراق والشمولية الاستشراقية كما يسميها، وهي نزعة تبدّت جلية في نصوص الجابري، او دمج الكليانية «اليسارية» بالجزئية «الماركسية» وهو ما يصوره الجابري من ان اليسار هو الماركسية في سياق قراءته السلفيات الثلاث المعروفة، وهو ما يناقض تجارب يسارية لم تنتهج الماركسية نهجاً في الفكر والممارسة، وإن تأثرت بها. لم يكن هدفنا من هذا المقال إجراء محاكمة فكرية للراحل الجابري، بقدر ما حاولنا نزع صفة التبسيط عن قراءة نصوصه، وبعض الكتابات التي سال حبرها غزيراً بعد رحيله، وهو كان ذا إشكالية حتى في صياغة النص والمرجعية والخلفية ومنهج البحث الذي يضيع قارئ الجابري في غياهبه لدرجة يستعصى فيها النص على الفهم بسبب كمّ التناقضات فيه. اختلفنا مع الجابري كالكثيرين، ولم نكن من مريديه ومناصري منهجه في البحث والنقد، وغيابه اليوم ذو دلالة شخصية إلى جانب دلالات فكرية بالغة، والدلالة الشخصية هي ان فئة من المثقفين الإشكاليين والمثيرين للجدل الضروري والمفتقد كثيراً في ثقافة قائمة على المسلّمات، هي فئة باتت اليوم مهددة بالانقراض، وسط غياب فكر جدلي وأقطاب له على مستوى النخب، كما وأد الجدل والنقاش وإهالة تراب الأرض فوقه على مستوى القاع الشعبي «الجماهيري» المدمن لليقينيات. كما ان ذلك ربما سيدعونا، إلى التوقف عند مأثرة جابرية تستحق الوقوف عندها طويلاً، وهي مأثرة اتفق عليها مناوئوه من جهة، مع محازبيه ومريديه من جهة ثانية، هي ان النص الجابري لم يكن ذا علاقة بكلام مر مرور الكرام، كما كتابات كثيرة، بل كان واحداً من اكثر المفكرين العرب والمغاربة إثارة للسجال، وللسجال العنيف الذي ارتبطت به مشاريع فكرية معرفية من الطراز الرفيع، وهذا، على ما نظن، أضعف الإيمان، ان يحرك النتاج الفكري لمثقف مستنقع اليقينيات الكبرى والركود التاريخي للثقافة العربية بنصوص مضادة ونصوص مؤيدة ومتوافقة أيضاً. وهذا ما تحتاجه الثقافة العربية التي لم تحل إشكالياتها مع التراث حتى اليوم، بل ربما كانت الماضوية والعودة الرومانسية نحو ذلك التراث واستجدائه عصب الأزمات التي تجنح عن فضاء الفكر، يميناً او يساراً، نحو الأيديولوجية المغلقة، إذا ما تعلق الأمر بجمود وتحنط وانغلاق في مواجهة الآخر، غربياً كان أم شرقياً، وبحجج ودواعٍ واتهامات بالاستشراق او الاستغراب أو ما شابه من مفاهيم مسندة إلى خصوصيات بائدة ومتهافتة تهافت دعاتها. * كاتب سوري.