«وجوه.. وأمكنة»، عنوان الكتاب الجديد الذي صدر مؤخراً للدكتور فهد العرابي الحارثي، رئيس مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام، وله عنوان فرعي آخر هو: «بوح المكان.. وشاية الملامح». والكتاب هو رحلة في الذاكرة ومعها عبر الأمكنة والوجوه؛ إذ يسرد أحداثاً وقعت، ويرسم ملامح مرت، فتركت انطباعاً، أو أثارت شجناً أو لفتة، أو خلفت ألماً أو ذكرى، فاستحقت لكل ذلك أن تروى. يقول المؤلف في مقدمة الكتاب: «الكتابة هي التي تختار زمنها؛ فهي تداهم الكاتب في أي وقت، وفي أي مكان، والكاتب لا يستطيع أن يقاومها، أو يلغيها، أو يتمرد عليها، مهما تظاهر بغير ذلك، إنه يستطيع فقط أن يؤجلها، وهي في هذه الحالة ستظل «تهرشه» وتلح عليه إلى أن يخرجها من داخله، أو بتعبير آخر يتخلص منها. الكتابة قد تخرج من الكاتب زاهية، مكتملة النمو، أو تكون خداجاً، هزيلة، مصابة بالأنيميا وفقر الدم. والكتابة إما تكون ولادة طبيعية سهلة وميسرة، وإما أنها ولادة «قيصرية» صعبة ومعقدة؛ إذْ يحتاج الكاتب بعدها إلى نقاهة طويلة من الكلام!». ويضيف المؤلف: «ما ستقرأون هنا هو في الواقع مشاهدات، أو قراءات عابرة، في ملامح مدن، وقسمات أمكنة، نزورها، أو نقيم فيها. وهو كذلك تأوُّل لوجوه أناس يعترضون مسيرتنا في الحياة، نقابلهم صدفة أو عنوة، ويبقى منهم شيء فينا، وبالتأكيد يبقى فيهم شيء منّا. وقد نظن للوهلة الأولى أننا سنمضي، وستتلاشى بالتالي تلك الملامح للمدن التي زرناها أو أقمنا فيها، أو ربما ستختفي بدورها تلك السحنات والقسمات في الوجوه التي اعترضتنا أو نحن اعترضناها، لكن سطوة الكتابة تأبى في لحظة ما إلاّ أن تعيد كل شيء إلى مكانه، ولكن هذه المرة بطريقتها، فهي تعيد تركيب الأشياء (الملامح والوجوه) وفق تصورها هي، وليس بالضرورة «طبق الأصل» كما هي في الواقع. إنها تفعل ذلك دون أن تفرط في البنية الأصيلة أو العضوية ل «الشخصية» ذاتها، فالعروس هي العروس، ولكن الملبّسة أو المزيّنة هي التي تختار الألوان، والإكسسوارات، وأدوات الزينة المختلفة، التي تضعها عليها، فهي قد تبدو جميلة ومقبولة لدى البعض، وقد تبدو على خلاف ذلك عند آخرين، وهي قد تظهر متفقة أو متطابقة مع الصورة «الأصلية» وقد لا تكون كذلك. الكتابة تقوم بالفعل نفسه، فتكسو الوجوه والملامح بشيء قليل أو كثير من هيبتها، أو جبروتها النافذ، فيبدو الكاتب هنا وكأنه يعيد الخلق من جديد، أي أنه يعيد صياغة الواقع بشروطه هو، ومن هنا يتحدد مدى قربه أو بعده من الخلق القديم. والفرق بين الكاتب وغيره (أيّ شخص آخر) هو أن كليهما عاينا المشاهد نفسها (الملامح والوجوه)، فالكاتب يملؤها بالحيوية والحركة، ومن ثم يودعها شيئاً منه، أي من ذاته ووجدانه، بينما الشخص الآخر، غير الكاتب، يتركها جامدة كما هي، فلا حراك، ولا استفزاز، ولا إغراء. كما أن الكاتب يشحن الملامح والوجوه بالإيحاءات؛ ليتأولها الناس، فيعيدون بناءها بدورهم، كلٌ بطريقته، ويتحقق لهم ذلك بفضل ما أودعته الكتابة فيها سلفاً من زخم، فيصبح المشهد الواحد هكذا مشاهد عدّة لا حصر لها، ويصير العالم الفريد عوالم كثيرة لا حدّ لها».