يرى الأستاذ الدكتور عبدالله الغذامي أن «الناس ظلت تنتج اللغة العربية الفصحى العصرية إرسالا واستقبالا، وإفهاما وفهما، دون وسيط نحوي». أما الكيفية التي يفهم المتكلمون بها بعضهم عن بعض ف«سؤال في ثقافة النسق السلوكي للأفراد مع حال لغتهم في شرطهم التواصلي حسب الثنائية الجوهرية والعملية: (الإفهام والفهم) وهي ثنائية تتحكم بقناعاتهم حول وظيفة اللغة عندهم، مما يجعل السؤال إشكالا ثقافيا وليس لغويا تخصصيا». ويتمثل «النسق السلوكي» في «السياق (الذي) صار بديلا عن النحو حيث يقوم… بكافة صوره في توجيه المعاني خارج شرط حركات الإعراب»، لذلك صار «السياق هو النحو العملي والوظيفي لفهم القول». ومن الواضح أن هذه المقولات كلها تنتمي إلى توجهات المدرسة السلوكية التي ظل تشومسكي يجادل ضدها منذ 1959م في مراجعته الجذرية الشهيرة لكتاب «السلوك اللفظي» لرائد المدرسة السلوكية في علم النفس سكِنر التي كان من مقتضياتها أن اللغة سلوك شبيه بأي سلوك آخر عند الإنسان. وقد امتد تأثير سكنر السلوكي إلى كثير من التخصصات، ومنها المدرسة الوصفية اللسانية من ثلاثينيات القرن العشرين إلى ستيناته في أمريكا خاصة. وتبنى أشهر الفلاسفة الأمريكيين المعاصرين ذلك التوجه في معالجتهم لظاهرة اللغة. ومنهم: هيلاري بتنام، ودانيل دينيت، ودونالد ديفيدسون، وويلارد كواين، ورتشادر رورتي الذي أشار الدكتور الغذامي إلى رأيه في كتابه «كيف تعمل اللغة». ويوجه تشومسكي لهؤلاء الفلاسفة نقدا جذريا صارما في كثير مما كتب. ويتضمن كتابه («آفاق جديدة في دراسة اللغة والذهن»، ترجمة حمزة المزيني، 2005م)، تلخيصا معمقا لفرضياتهم السطحية عن اللغة، ولأوجه نقده لتلك الفرضيات. وهو يجادل بأن اللغة ظاهرة مختلفة عن أي نظام معرفي آخر عند الإنسان. ويشير دائما إلى أن دراسة اللغة ظلت ضحية منذ فجر الاهتمام بدراستها لتقاليد تهتم بظاهرها وبالمتن اللغوي مقطوعا عن الآليات العميقة التي تتحكم في إنتاجه. ويعني هذا أن تناول الدكتور الغذامي، المبني على مقولات السلوكيين، ينطبق عليه نقد تشومسكي للتوجه السلوكي كله في النظر إلى اللغة. ولم يبين الدكتور الغذامي كيف يسهم «السياق» في «الإفهام والفهم» بمعزل عن «النحو» الذي يحكم العلاقات بين الكلمات في أي إنتاج كلامي. واللجوء إلى السياق تفسيرا لظاهرة «الإفهام والفهم»، في غياب إيضاح الكيفية التي يحققهما بها، لجوء إلى مجهول غير محدد. وربما عنى هذا «السياق» أن ما يقوله الناس من كلام لا يزيد عن كونه تتابعا من الكلمات يمكن لمستمعيه أن يكتشفوا ما يعنيه من خلال الظروف التي تحيط بهم. وربما يعني هذا، كذلك، أن فهمنا يرتبط ارتباطا شرطيا بالمواقف التي يحدث فيها الكلام. ويتعارض هذا مع ما تبين للسانيين منذ زمن بعيد من أن أحد أهم الخصائص المؤسِّسة للغة «أنها حرة من الارتباط بالمثير». وهو ما يعني أن ما يقوله المتكلم ربما لا يرتبط ب«السياق». ولا يتسع المجال لاستعراض الكيفية التي يتبعها المتكلمون ليفهم بعضهم عن بعض، لكن المؤكد أن النحو (بغض النظر عن صورته) يمثل العمود الفقري للآليات التي ينتج عنها «الفهم والإفهام». ومن الخصائص الأخرى المهمة المؤسِّسة للغة أنها «محكومة بالقاعدة»، كما يقول تشومسكي، وأن اللغة تنتج عن «إجراءات توليدية» تعمل على بناء الجمل فيها على صور منضبطة. وتستند هذه الإجراءات التوليدية إلى البرنامج المسبق الذي يولد الأطفال مزودين به، وهو الذي يوجب أن تبنى اللغة بشكل معين بدلا من أي شكل آخر. ومن هنا فمن المستحيل أن توجد لغة من غير أن تكون محكومة بمصفوفة من «القواعد النحوية». ويمكن التمثيل على لزوم وجود «القواعد النحوية» في أي إنتاج لغوي بمثال من اللهجات العربية التي يدعى أحيانا أنها ليس لها «نحو». لنتأمل «خليط» الكلمات التالي، مثلا: البيت السيارة قدّام وَقَّفْت. السيارة قدام وقفت البيت. قدام السيارة البيت وقفت. وربما ادعى أحد أننا يمكن أن نفهم المقصود من هذه «السَّلَطة» من الكلمات إذا اختلقنا لها سياقا ملائما! وقد يكون هذا ممكنا إن كان القائل المحتمل لها في حالة غير طبيعية (!)، أو كان مصابا بعاهة ينتج عنها هذا النوع من خلط الكلام، وغير ذلك. لكن المؤكد أن أي متكلم طبيعي لهذه اللهجة لن يأخذ هذه التتابع من الكلمات على أنه الجملة المقبولة «نحويا»: «وقَّفت السيارة قدام البيت». ومن الأمثلة الأخرى التي تشهد بأن النحو يمثل العمود الفقري للغة وأنه لا يمكن لأي منتَج كلامي أن يقوم من دونه، تلك الحالات التي يَكتسب فيها نوعٌ كلامي النحوَ في جيل واحد. ومن أشهر الأمثلة على ذلك الحالات التي درسها ديريك بيكرتون (للتفصيل، ستيفن بنكر: الغريزة اللغوية، ترجمة حمزة المزيني، 2000م)، وهو ما يصح عن نشوء كثير من اللغات طوال التاريخ. فقد درس بيكرتون التطورات اللغوية عند سكان جزيرة هاواي الأمريكية. وكانت هاواي مقصدا للعمال الذين جلبهم مزارعو قصب السكر هناك. وجاء هؤلاء بلغاتهم المختلفة وهو ما اضطرهم، كما يحدث عادة، إلى اختراع وسيلة «لغوية» للتواصل في ما بينهم يُطلق عليها الباحثون «اللغة الهجين». وهي لا تزيد عن كونها كلمات محدودة مجردة من التعقيدات الصوتية والصرفية والنحوية للغات التي جاءت منها (وهو ما يشبه النوع الكلامي المستخدم في المملكة الآن للتواصل مع وبين العمال الذين يتكلمون لغات مختلفة ولا يتكلمون العربية). وقد تحوَّل هذا الخليط من الكلمات «الوظيفية» إلى ما يسميه بيكرتون ب«اللغة المولَّدة» بفعل اكتساب أطفال أولئك العمال للغة في خلال جيل واحد. ويعود ذلك إلى أن أولئك الأطفال، كالأطفال جميعا، ولدوا مزودين بما يسميه تشومسكي ب«النحو الكلي» وهو البرنامج المسبق الخاص باللغة. ولما كان هذا البرنامج «النحوي» المسبق لا يسمح بأن يكتسب الأطفال «اللغة الهجين» التي تخالف «الإجراءات التوليدية» التي تحكم اللغة البشرية فقد أخضع الأطفال ذلك الخليط من الكلمات لتلك الإجراءات التوليدية وأنتجوا، في خلال جيل واحد، لغة مولدة لا تختلف عن أية لغة بشرية أخرى من حيث خضوعها لقواعد نحوية تتماشى مع المبادئ الحاكمة للغة البشرية. ومن الأدلة الأخرى على خضوع اللغة لل«النحو» أن باحثين أجروا مؤخرا تجربة تتمثل في صياغة لغتين غير طبيعيتين تخضع إحداهما للمبادئ التي تحكم اللغة الألمانية وأخرى تشبهها تماما لكنها تخالف تلك المبادئ. وقد وجدوا، حين أخضعوا المشاركين في التجربة لتصوير نشاط الدماغ في أثناء استماعهم للغتين، أن المراكز العصبية التي ترتبط باللغة في الدماغ تنشط وحدها حين تعرض عليهم اللغة الشبيهة بالألمانية. أما إذا عرضت عليهم اللغة الأخرى التي لا تتماشى مع المبادئ الحاكمة للغة البشرية فإن مراكز متناثرة في الدماغ تأخذ في النشاط العشوائي بعيدا عن المراكز الخاصة باللغة. ويعني هذا كله أن اللغة ليست خليطا من الكلمات تنتج وتفهم بمعزل عن بنية محكومة بمبادئ خاصة بها يمكن أن نسميها «نحوا».