إنَّ القدرة على التفكير صفةٌ يشترك فيها كلُّ العُقَلاء مع تفاوُت درجاتها وفَوائدها، وتَدُور عجلة التفكير بمجرَّد أنْ يسمع المرء كلمةً أو يشاهد موقفًا، أو تتحرَّك وتستثار بعض حواسِّه بِمُؤثِّرٍ خارجي أو داخلي. إنَّ التفكير بِمَنزلة وضْع البُذور في تربة الحقل وانتظار المطر، الذي يشقُّ بعض البذور دُون غيرها؛ لينبت شجرة المعرفة التي تحمل ثمرة التذكُّر، ومن هذه الثمرة تُنتقى بُذور التفكُّر وتُحفَظ لزمن البذر القادم. إنَّ الفكرة تقودُ إلى الذِّكرى، والذكرى تقودُ إلى الفكرة، وأطيب ثمار التذكُّر ما قرَّب العبد من الله – سبحانه وتعالى – وجعَلَه على درْب طاعته. والتفكُّر عملٌ يفعله الجميع، ولكن ثمرة التذكُّر لا يجنيها إلا أولئك النَّفر الذين وجَّهوا مَطايا عُقولهم إلى درْب الخير والفضيلة المؤدِّي إلى محبَّة الله ورضوانه؛ يقول الله – عز وجل -: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 269]. ويحدثنا ابن قيِّم الجوزيَّة في مُصنَّفه النفيس «مدارج السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين» عن التفكُّر والتذكُّر قائلاً: «والعارف لا يَزالُ يعود بتفكُّره على تذكُّره، وبتذكُّره على تفكُّره، حتى يفتَح قفل قلبه بإذن الفتَّاح العليم»، ومتى فُتِحَ قفلُ القلب نطَق بألوان المعرفة والحِكمة وتمكَّنت من شِغافه حَقائقُ الإيمان ولطائف الإحسان التي يُبصِر بها العبد مواقع الآيات ومواضع العِبَر. إنَّ ثمرة التذكُّر لا تنضج ولا يطيبُ طعمُها لجانيها إلا بتحقيق ثلاثة أمور يذكُرها ويشرحها العلامة ابن القيِّم: -1 الانتفاع بالعِظَةِ، -2 الاستِبصار بالعِبرة، -3 الظَّفَر بثمرة الفِكرة. أمَّا الانتفاع بالعِظة فإنَّه يتحقَّق بثلاثة شُروط هي: شدَّة الحاجة والافتقار للعظة، وغض البصر عن عيب الواعظ والناصح الذي يحرم مَن اشتغل به الانتفاعَ بالموعظة، والشرط الثالث هو تذكُّر وعْد الله ووعيده الذي يملأ القلب خشيةً ويجعله أكثر قبولاً للموعظة. إنَّ الأمر الثاني اللازم لنُضج ثمرة التفكُّر هو استِبصار العِبرة، فليس كل من رأى يبصر، وما كل من سمع وعى، وشُروط استِبصار العِبرة: حياة العقل؛ وهي: صحَّة الإدراك، وسَلامة الفهم، والحرص على النَّفع، وتحقيقه الشرط الثاني هو معرفة قدْر الوقت في الدارَيْن، فما الحياة الدُّنيا إلا أنفاس مَعدودة، والآخِرة هي دار البَقاء والخلد. الشرط الثالث لاستبصار العِبرة هو السلامة من اتِّباع الهوى والنفس الأمَّارة بالسوء، فإنَّ نور الهداية في العقل قد تُطفِئه رياحُ الهوى والمعصية أو توهنه وتذبل فتيله. إنَّ الأمر الثالث الذي تنضج ثمرة التذكُّر بتحقيقه مع الأمرَيْن السابقَيْن هو الظفر بثمرة الفكرة، وشُروطه المذكورة في المصنف: قصر الأمل الذي يُذكِّر بقصر الحياة وقلة الزاد وقُرب الرحيل، والشرط الثاني هو تذكُّر القُرآن وصحبته وإطالة التأمُّل فيه، فإنها تُثبِّت قواعد الإيمان والإحسان وتطلع المتأمِّل على جمال معالم الخير ليُحبَّها فيسعى إليها، وتُبصِّره بقُبح معالم الشر وسُوء درب الشيطان؛ لينفر عنها ويهرب منها. أمَّا الشرط الثالث المُعِين على الظفر بثمرة الفكرة، فهو تجنُّب كلِّ ما يُفسِد القلب من التعلُّق بغير الله والاستغراق الملهي والمشغل في المباح، ورُكوب بحر الأماني الكاذبة المفلسة، فما ينفع المسافر طول مكثه في واحة التزود، ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل. إنَّ سِراج الفكر لا يُضِيء الدَّرب لسالكه إلا بوقود التذكرة، ولا تتشقَّق بُذور الفكر فتنبت شجرة المعرفة مُحمَّلة بثِمار التذكرة إلا إذا بلَّلَتْها محبَّةُ الله، فذاقَتْ لذَّة الأنس بذِكره، وهزَّها الشوق إلى لِقائه، فأقبَلتْ عليه وأعرضَتْ عمَّن سواه.