مواجهات ضارية.. يخوضها رجال حرس الحدود في قطاع ظهران الجنوب البري.. على امتداد 83.4 كيلومتر .. فرضتها عليهم تضاريس وعرة .. وأجواء شديدة البرودة.. لا يفكرون كثيراً حين يجودون بأرواحهم .. يستقبلون الرصاص بصدور لا تعرف الخوف. هناك.. يتحول الليل إلى معارك مستمرة، يسقط فيها من يسقط، أما من يبق واقفاً على قدميه، فإنه يتوقع في كل لحظة مفاجأة غير سارة، لكن .. يبقى عشق الوطن في تلك القلوب حيًا. «الشرق» عايشت معهم لحظات صعبة على امتداد الشريط الحدودي، حملت معاني لا يفك شفرتها إلا من يدرك معنى الوطن. بدأنا جولتنا بزيارة لقائد القطاع العميد سعيد محمد المهجري الذي رحب بنا وكلف الملازم الأول عبدالله محمد آل مشيط بمرافقتنا على الحدود وتسهيل مهمتنا. وكإجراء وقائي لابد منه، كان علينا أن نضع السترة الواقية والخوذة تحسبا لما قد نواجه من مخاطر، فنحن الآن على خط المواجهة مباشرة. مضينا في طريقنا، عبر دروب بعضها معبَّد وأخرى ترابية، ومررنا بنقاط متعددة يرابط فيها الجنود الذين كانوا يستقبلوننا بابتسامة هادئة قبل أن يسمحوا لنا بالمرور. مواقعهم خلايا نحل، ينتشرون في كل مكان. وصلنا إلى رأس الحد الجنوبي مع جمهورية اليمن الشقيق. أبراج المراقبة تنتشر فوق قمم جبلية تنخفص فيها الحرارة إلى الصفر. يقظة الجنود في أشدها، بعضهم يتابع بالعين المجردة وآخرون بالمنظار وغيرهم يستخدمون كاميرات حرارية متحركة في الرصد والمتابعة. في مركز «الحضار»، استقبلنا الضباط والأفراد بترحاب، وأصروا على ضيافتنا بالقهوة العربية والتمر. سرت حالة من الدفء في العروق بدت على محياهم تطارد الصقيع. أحدهم تولى واجب الضيافة، وآخر بقي يراقب النار وثالث يوزع المهام القادمة، ورابع يمازح زملاءه. كانوا أسرة واحدة . وبتلقائية شديدة أزالوا دهشتي حين قلت لهم، أنتم معرضون للموت في أي لحظة ورغم ذلك أراكم تضحكون وتمزحون، فقالوا نحن نطلب الشهادة في سبيل الله والذود عن حدود الوطن. وقبل حلول الظلام استدعى قائد المركز الأفراد، ووزع عليهم المهام، ثم توجه الجميع إلى مقراتهم وجهزوا أنفسهم، وحملوا أسلحتهم وعتادهم وكاميراتهم المتحركة وتحركوا إلى مواقعهم التي تم تحديدها. ودعناهم متوجهين إلى مركز آخر. في الطريق مررنا بمشروع قص وتهذيب الجبال، وسرنا فوق طرق ترابية ممهدة، وصولاً إلى مشروع السفلتة العملاق لربط الحدود، الذي تنفذه مجموعة بن لادن السعودية. وحين وصلنا إلى مركز «الربوعة» كان الليل قد داهمنا، وهناك كان قائد القطاع يسلم عدداً من الضباط والأفراد مكافآت نظير جهودهم في إحباط عدد من العمليات. صلينا المغرب والعشاء ثم توجهنا إلى مواقع الكمائن والكاميرات الحرارية بصحبة القائد. وبدأت أشعر بالبرد رغم ارتدائي معطفا ثقيلا. توجهنا إلى أحد الكمائن حيث لا تكاد ترى يدك من شدة الظلام. وكان رجال حرس الحدود البواسل في انتظارنا، متحصنين بسواتر من الصخور على رأس الحد في انتظار أي محاولة تهريب أو تسلل. وهناك شراك وقنابل ضوئية زرعت على امتداد 150 متراً، تنفجر عند مجرد الاحتكاك بأسلاكها لتولد قدراً هائلاً من الضوء تستطيع من خلاله استكشاف الموقع، وتستمر لنحو 4 دقائق. وفي مقر الكاميرات الحرارية كان رجال الحرس ينتقلون من مكان لآخر مستخدمين كاميرات ثابتة ومتحركة يتحكم في حركتها أفراد مؤهلون يتم من خلالها رصد أي تحركات وكأنك في وضح النهار. ويبدو أن الطبيعة الوعرة أجبرت الرجال على ابتكار أساليبهم المثلى للرقابة. ومن ذلك ابتكار قائد مركز الربوعة رئيس رقباء عبدالرزاق الغامدي لما يعرف بالدائرة الضوئية ووفقاً لما فهمنا منه، يتم تطويق منطقة معينة عبر أسلاك يتم توصيلها بأضواء تزرع في مناطق عديدة، وبمجرد ملامستها تنير المنطقة المعينة بالأضواء مع انطلاق جرس إنذار لتحاصر المتسللين والمهربين ومن ثم يتم رصدهم والسيطرة عليهم عن بعد. الفكرة التي لقيت نجاحاً كبيراً، قال الغامدي عنها إنها تتم إلى الآن بمواد بسيطة وجهود ذاتية، لكنها على حد قوله تحتاج إلى دعم لتطبيقها على نطاق واسع. وانتهت جولة اليوم الأول عند انتصاف الليل. ومع إشراقة اليوم الثاني، رافقنا قائد القطاع في الجولة التي شملت عدداً من المواقع، وخلالها تم رصد عدد من المتسللين وضبطهم، ووقفنا على طريقة التعامل معهم كما شاهدنا الكمائن التى يتم نصبها مع حلول الظلام للقبض على المتسللين والمهربين. وقادنا العميد المهجري عبر مختلف النقاط والمراكز وحتى منتصف الليل، عدنا بعدها للمبيت والراحة على أن يتم استكمال الجولة في اليوم التالي. وفي اليوم الثالث كنا على موعد مع زيارة لقيادة حرس الحدود بقطاع ظهران الجنوب رافقنا خلالها قائد القطاع، حيث اطلعنا على جهود العاملين بغرفة العمليات ومسارات الإشارات والبلاغات والرصد الآلي للمركبات ومواقعها الثابتة والمتحركة، واطلعنا على خرائط جوية للمنطقة الحدودية وطريقة تغطية كافة المناطق الحدودية والشريط الحدودي. وزرنا قسم الشؤون القانونية واطلعنا على إجراءات التعامل مع المتسللين وترحيلهم وكيفية التعامل مع المضبوطات وإتلافها. العميد المهجري استقبلنا في ختام جولتنا، وكان لنا معه حديث مطول عن قدرات وتضحيات حرس الحدود في ظهران الجنوب. ** ولأن الحديث عن حرس الحدود في تلك المنطقة الخطرة لا تكفيه حلقة واحدة، فسوف نحكي في الغد بعضاً من تفاصيل ذلك المشهد العامر بالجهد واليقظة والبطولة. فإن أقل ما نقدمه لهؤلاء الرجال هو تسليط بعض الضوء على بطولاتهم، رغم أنهم في غنى عنها، لأن ما يشغلهم طوال الوقت هو حماية الحدود وتأمين الوطن ضد المهربين والمتسللين.