حين أحرق البوعزيزي نفسه في سيدي بوزيد صدم بعضهم وتعجب آخرون بل وضحك بعضهم مقابل بكاء كثيرين. أما الجميع فلم يكونوا يتصورون ماذا ستفعل شرارة هذا الرجل في مصائر الناس في تونس واليمن ومصر وتنتهي بمقتل نصف مليون في سوريا؟ وعندما انفجرت الثورة الفرنسية عام 1789 للميلاد اعتبر بعض المؤرخين أن ما حدث يشبه الخرفان التي هاجمت أسداً غضنفر فافترسته، وجرت العادة أن الأسود هي التي تَفترس ولا تُفترس. وكان لينين في بعض لحظات اليأس يظن أن حكم عائلة رومانوف سيسحب عبر الزمن ثلاثة قرون أخرى؛ فطالما حافظت على نفسها ثلاثة قرون ما المانع أن يمتد حكم العائلة 300 سنة جديدة بنفس النظم والظلم والإيقاع الرتيب؟ وأظنه خلف دافع بشار أن يبقى راكباً على ظهر المستضعفين في سوريا قرونا ، كذلك دأب الذين من قبلهم حتى جاءهم العذاب الأليم. واعتبرت الاستخبارات الأمريكية عام 1978 م أن الوضع في إيران أكثر من مستقر، وكانت كل تحريات الكمبيوترات تشير إلى أن إيران ليست حتى ولا في مرحلة ما قبل الثورة، ولكن خلافاً لأدمغة الكمبيوتر انفجرت الثورة فكانت وبالاً على المنطقة ومذبحة كبرى للشعب السوري بعد ثلاثة عقود، وهي من سخريات القدر هذا إن لم يكن يقهقه؟ وكانت الإمبراطورية العثمانية تعتبر الرجل المريض على ضفاف البوسفور ولكن صدفة وجود شخصية من نوعية كمال أتاتورك كان لها الدور المحوري في القضاء على إمبراطورية عريقة ضربت جذورها عبر الزمن خمسة قرون، ويقوم على رأسها رجل محنك، على درجة عالية من الدهاء والمكر السياسي، وفهم الأوضاع العالمية، من طراز السلطان (عبد الحميد الثاني) الذي استطاع أن يقنص ثورياً من طراز جمال الدين الأفغاني في القفص الذهبي عنده، على الرغم من كل عنفوان الأفغاني وحيويته وتمرده الذي لا يعرف الحدود، ويعتبر بعض المؤرخين أن أنف (كليوباترة) الجميل أغرى الإمبراطور الروماني (انتونيو) فورطه في حب عاصف، والدخول لاحقاً في معركة (آكتيوم) تحت الافتنان بهذه المرأة فائقة الجمال، ليخسر لعبة الصراع على الحكم في روما في العصر القديم، على الشكل الذي طرحه المؤرخ البريطاني (بوري BURRY ) في مقالة له عن الداروينية في التاريخ، وعنصر المصادفة في صنع أحداث التاريخ. ويدرس التاريخ اليوم في الجامعات الراقية في أمريكا الشمالية من نوع جامعة (مكجيل) ( Mc. GIL) مونتريال كندا على أن الأحداث التي جرت يمكن أن يتحدث المؤرخ فيها بكثير من القوة والتحليل ولكن السيناريو المحتمل على وجه الدقة لا يستطيع أحد أن يتكهن به كما لا يتجرأ أحد على التنبؤ، ولا يستطيع أحد أن يستبعد حدثاً هامشياً يلعب فيما بعد دوراً أساسياً في ولادة أحداث التاريخ، فشخصية نصف مجنونة من نوعية تيمورلنك حطمت قوة عثمانية على أهبة الاستعداد لاجتياح أوروبا، ورجل مهووس من نوع كولومبس رُكب عقله على ضرب كبير من الخرافة فتصدع التاريخ من رحلته، وفعل باكتشافه انقلاباً كونياً لم يعرف هو بذاته أبعاده التاريخية الرهيبة اللاحقة، وصعود رجل عصابي مهيج (AGITATOR) شوفيني متطرف إلى منصة الحكم في ألمانيا من نوعية (هتلر) عام 1933 م كان سبباً في إشعال فتيل الحرب الكونية الأخيرة، وعضة قرد مدلل لملك اليونان الكسندر في خريف عام 1920م أودت بحياة الملك ومعها نصف مليون من السكان في حرب أهلية طاحنة، وإصابة السلطان العثماني (بايزيد) بداء النقرس أوقفت حملته العسكرية في مطلع القرن الخامس عشر للميلاد وأنقذت مصير أوروبا، ومرض (تروتسكي) برحلة صيد البط في فصل الخريف المفاجئ لعب الدور الحاسم في لحظات حرجة من الثورة البلشفية، في حسم الصراع مع مجموعة زينوفيف وكامينيف وستالين عام 1923م، عندما اختفى لينين فجأة من مسرح الأحداث بوفاة مبكرة بسن الرابعة والخمسين.