في هذه الصفحة، نبحر أسبوعيًا مع كاتبنا الرشيق، نجيب الزامل، مستدعيًا يومياته، التي يلخصها لقراء (اليوم) في سبع تجارب ذهنية وفكرية، يثري بها الأفق السياسي والفلسفي والتاريخي والجغرافي والثقافي. إنها تجربة يتحمّلها الزامل وربما نتحمّلها نحن بإسقاطاتها، وتداعياتها وخلفياتها، حتى لا يكون في العقل «شيءٌ من حتى». تباينت الآراءُ في صحة الشعر المنسوب لعلي بن أبي طالب- رضي الله عنه- حتى قيل: إن معظم شعره صاغه الشاعر الفاطمي الشريف الرضي. وفي رأي العديد من الرواة والمؤرخين والمحدِّثين كإبن مزاحم، وابن الأثير، والسيوطي وغيرهم، أن علياً رضي الله عنه أتقن صناعة الشعر، وأحسَن نظمه، وأوردوا كثيرا من الأبيات الشعرية له، وهي أبياتٌ فيها المعاني الحكيمة والآراء في الدين والدنيا، وهذا ما عُرِف عن صفاته.. ولكنهم أيضا أقرّوا أن قِسماً من شعره منتحل، حتى أن بعضه ركيكٌ لا يصدر من إمام البُلغاء وسيِّد الفصحاء. أنقل بعضاً من شعره المنسوب له في أكثر من مصدر: - يقول في فضل العلم: وقيمةُ المرءِ ما قد يحسنه والجاهلون لأهل العلمِ أعداءُ فقم بعلمٍ ولا تطلب منه بدَلاً فالناسُ موتى وأهل العلمِ أحيَاءُ - ويقول في جمال العقل والأدب: ليس الجمالُ بأثوابٍ تزيننا إن الجمالَ جمالُ العقلِ والأدَبِ ليس اليتيمُ الذي قد مات والدُه ُ إنّ اليتيمَ يتيمُ العلمِ والأدبِ - ويقول في الأدب: من لم يؤدِّبْهُ دينُ المصطفى أدباً – محضاً تحيَّر في الأحوالِ واضطربا ويقول في السلوك: ومن هاب الرجالَ تهيبوهُ – ومن يُهنِ الرجالَ فلن يُهابا
اليوم الثاني:حي بن يقظان، وقلّده روبنسون كروزو: أحدثكم اليوم عن مفكر وفيلسوف عظيم، ولو كانت الوجودية كما أرادها مؤسسوها الأوئل أن تكون تكريساً للوجود البشري بأخلاقه ومبادئه وروحانياته، قبل أن يعفسها عليهم «سارتر»، لكان فيلسوفنا اليوم هو أبو الوجودية الإيجابية عندما تكون الوجودية بحثا عن سرِّ الوجود من واقع الوصول للقناعات الروحية الكبرى. فيلسوفنا هذا نقد «بطليموس» كبير الإغريق بلا وجل، ونقد فلسفة «الفارابي» وقد كان للفارابي اسم لا يقترب إليه أحد، كما نقد «ابن سينا» و»ابن رُشد» و»الغزالي»، هو أيضا المعلِّمُ الأول للعقل الفائق الذكاء «ابن رشد». إنه الفيلسوف «ابن طفيل». على أن أعظم إنجازات «ابن طفيل» الفلسفية هو كتاب أو قصة «حي بن يقظان»، ابن طفيل أول فيلسوف على الأرض ينتبه للمعنى النفعي والمغزى للقصة، فالقصة يقرؤها المتلقي من غير تحفّز فكري على عكس الدروس والإلقاء والصيغة العلمية الجافة، ثم تتشرب المعلومة في داخل أوردة القارئ وتصبح من نسيجه الحي من دون أن يشعر أو يعاني في هضم أفكارها، وهذه عبقرية فريدة لم يسبق أحدٌ فيها صاحبنا «ابن طفيل» الأندلسي، بل قلّده فيما بعد كاتب قصة روبنسون كروزو، وطرزان، وحتى «سبينوزا» كبير مفكري القرون الوسطى تأثر بها وبوضوح في قصة «أندريو»، وقرّضها الرجلُ الكبير الذي تكلّمنا عنه في النزهة السابقة «توما الإقويني»، كما نالت قصة «حي بن يقظان» إعجاباً كبيراً عند مفكرين آخرين مثل، «غوتِهْ» الألماني، والفيلسوف «ليبنتز» و»مونك» و»رينان».. وغيرهم. طيب من هو «حي بن يقظان»؟ وهل عاش في سيلان «سيرلانكا حاليا» ومن أرضعه؟ غزالة؟ أم قردة؟ أم عاش على ورق النبات؟ كيف توصل للوحدانية بدون أن تصل له أيّة رسالة دينية، وكيف نبعتْ فلسفة ابن طفيل من خلال تطوّر حي بن يقظان والتي أذهلت المفكرين لقرون.. وما زالت؟! كلُّ ذلك سأخبركم عنه في النزهة المقبلة. اليوم الثالث:هل الثورات تطوُّرٌ أم نكوص؟ ما يزال أكثر الكُتاب ومراقبو السياسة والحركات الاجتماعية حسب الاصطلاحات المتعارفة يُفرِّقون بين الثورة وبين التطور. فيُخصِّصون كلمة «ثورة» للانتفاضات التي تستهدف انتزاع السُّلطة السياسية وقلب أنظمة الحُكم، وقد تلجأ الضرورةُ فيها إلى سفك الدماء. طيب، العالم الانجليزي المعروف «جوليان هكسلي» له رأيٌ آخر أذاعه من سنين طِوال، فهو يقول:»لا يجب أن نضع فرْقاً أصيلاً بين التطوّر والثورة». لأن الثورة - كما يزعم هكسلي- «هي التطور ذاته ولكن زادت سرعته!».. وسأترك لكم التأمل في فكرة هكسلي. وبرأيي الشخصي أن كلَّ شيءٍ يمكن التحكُّم به حتى إذا حدث، والأفضل التوقّي له قبل أن يحدث. والتحكم والتوقي يجب أن يكونا من باب التطور، لا التأخر والقمع وكتم الحُريَّات وإقفال الأفواه. إن حدثت فعلينا تقبُّلها أولا، ثم نسعى لتوجيهها بدلا أن نحاول – عبثاً- مقاومتها والقضاء عليها، فكل الثورات حسب ما يكتبه لنا التاريخ هي التي تنجح، حتى لو كانت سيئة، منذ الثورة الفرنسية حتى الآن. خذ أنه من الثورة البلشفيّة في روسيا والتي أتت بأفظع الحكومات على الأرض انتصرت وبسهولة على ملكية آل رومانوف المتهتكة. وكذلك مسيرة الفلاحين الصينيين ضد «تشان كاي تشيك» بقيادة «ماو تسي تونع». ومروراً بكل ثورات الأرض من أمريكا اللاتينية إلى الانقلابات العربية، ثم ثورات الربيع العربي. إن الثورة ليس سهلا أبداً القضاء عليها مهما استقوى وتمرّد النظام على الثائرين، وخُذ سوريا مثالا شاهقا. وهل تعتقد أن الثورة الفرنسية هي الوحيدة في أوربا؟ وأن الملكلة الهادئة البريطانية لم تتزلزل بالثورات؟ غير صحيح. أول ثورةٍ أوربيةٍ كبرى طلبا للحريات ولمزيدٍ من الديموقراطية إنما كان مهدُها بريطانيا نفسها. لقد قامت في العام 1649 ثورة دموية عنيفة في إنجلترا قُطع فيه رأسُ ملكهم «شارل الأول»، الذي طغى استبداداً وفساداً، وأعطت الثورةُ كلًّ السلطات للبرلمان ليقود البلاد.. بعد هذا لم تعد بريطانيا بحاجةٍ لثورات أخرى. هل في استطاعتنا تجنب الثورات؟ من السهل جداً تجنُّب الثورات بل توظيفها كموجة تحتية تحمل الحاكم إلى أعلى، لو أنه سمع للناس من أول مرة، وحيث إن السّماع سهلٌ بل سيُعمّده بطلاً شعبيا حقيقيا، غير أن العِنادَ والمكابرة وتعظّم الذات والاستنكار والاستكبار، هو الذي من الصعب التخلُّص منه عند حاكمٍ ظنّ أنه يجاور الآلهة. لو أن الملك «لويس السادس عشر» سمع أول صرخة جوع في فرنسا، واتّبَع نصائح وزيره «تورغو» الذي غرّد خارج سِرب البِطانة، ورضي بتنفيذ برنامجه الإصلاحي الذي تفاءل به الشعبُ والمعارضة، لرُبّما تغيّر تاريخ الثورة في فرنسا، وتاريخ كلّ الثورات من بعد. إن أيَّ قارىء مُتمعِّنٍ في التاريخ السياسي سيجد أن أيًّ حاكمٍ معرضٌ حتماً لأمرين: البقاءُ بالعدل والإصلاح.. أو ثورة تزيلُه لِتُقيمَ ما تعتقدُ أنه عدلاً وإصلاحاً. لا ثالث بينهما! اليوم الرابع: الأطباء عندما يكونون أدباء.. وأحب هذا الفرنسي منهم! لن يُمكننا في مكان محصور مثل هذا أن نذكر كلَّ الأدباء الأطباء.. لكن هناك رابطا قوياً بين الطبيب والأدب، ويتضح من قراءاتي لكثير من الأطباء سواءً كتبوا في الأدب خالصا أو حتى كتبوا كُتبا علميّة للناس بالصِّيغ الأدبية وضوحا ورِقّة ودِقةً وإمتاعا ،وحتى عاطفة منسابة كجداول السواقي الصافية، وأنا في محاولة لمعرفة ما السر، وربما لارتباطهم القوي بمعنى الحياة والكفاح من أجلها..يمكن! وما زلت أسأل: ما الذي يجعل الطبيب إن كان شاعرا مثل «ابراهيم ناجي» يقْطُرُ عاطفةً بكلمات تشد أوتار الفؤاد؟ ولمَ يكتب الدكتور «يوسف إدريس» كتاباتٍ مشحونةً عاطفة من الرضا والغضب والاحتجاج والسكينة ،وبِلُغة لا يمكن أن تصرِف عينيك بعيدا عنها؟ أو الدكتور «صبري قباني»، والدكتور «عبدالسلام العجيلي» في كتاباتهما العلمية حتى وكأن نحوياً من عصر الدؤلي أو الخليل خرج من بطن القرون. وكان الدكتور «مصطفى محمود» من أجمل من صاغ المعلومة العملية بِلُغةٍ نبيلة في عالمنا العربي. ولا ننسى أن أطباءنا القدماء كانوا فلاسفة وممتهني كتابة أدبية من طراز فخم كالطبيب «الرازي»، والطبيب «ابن سينا»، والأخير كان طبيعيا، منطقيا، رياضيا، فيلسوفا، وفلكيا. وأفضل شخصيا «يعقوب الكِنْدي» وكان عالماً بالطب والفلسفة وعِلم الحساب، وتأليف الألحان، والهندسة. وبرع الأطباءُ الأجانب أيضا بكل فنون الأدب من القصة للمسرحية والشعر والنقد، «سومرست موم» أجمل من كتب القصة في اللغة الإنجليزية المتأخرة، و»السير آرثر كونان دويل»، طبيب العيون صاحب قصص «شرلوك هولمز» الذي فتنت بريطانيا ثم العالم بأسره. والمؤرخ الفرنسي الذي أعاد قولبة علم التاريخ «أميل ليتريه» من القرن التاسع عشر وهذا ألّف قاموسا طبيا وكان روائيا، وفيلسوفا، وممارسا طبيا ناجحا. ولا يمكن أن أنسى فخرَ كلّ روسيا الأدبي الطبيب «أنطون تشيكوف»، ويكتبه بعض العرب تشيخوف، مع أن لا حرف خاء بالروسية، على أن الروس يعمّقون لفظ الكاف. والأمريكي «واير ميشيل» وكان طبيبا وفسيلوجيا وعالم أعصاب، الّف تسعة كتبٍ طبية، ودبّج عشراتِ المقالات البحثية، وكتب تسع عشرة رواية، وسبعة دواوين شعرية، وأرّخ سِيَر المشاهير. والطبيب «فريدريك شيلر» الأديب والشاعر الشهير الألماني مارس الطب سنيناً، وهو مؤلف مصنف من أشهر التصانيف الاجتماعية السياسية والنفسية بعنوان:»هكذا يموت الطغاة». والفرنسي «ليكلير» وهذا رجل أُحِب أن أذكره وأضعَ تحته خطاً، ليه؟! لأنه دوّن تاريخ الطب العربي بدقَّة ونزاهة، وقال: إن العربَ مندهشون في كل شيء إلا في الطب فقد تفوّقوا على الدهشة ذاتها! وِشرايكم؟ ألا يوضع «ليكلير» في مكان أكثر سطوعا؟ وهو قد بحث بنفسه، وإن كان معظم عمله نقلاً مترجما نزيها عن «ابن أبي أصيبعة»، ونقل للفرنسية وما زال في اللغة الطبية مفردات الطبيب المسلم ابن البيطار.. ويبقى كثيرون. اليوم الخامس:من الشعر الأجنبي- ترجمتي بتصرف- «لما أراد المكنسة.. كنَسْتُه أنا! اليوم أختار لكم شعرا جميلا ومُعبّرا وفكهاً منقولا من التاميلية إلى الإنجليزية، وواضعة القصيدة شاعرة هندية اسمها كانتيراكانتي.. وستجدون فيها التقليد الشائع بالهند بأن المرأة هي من تعطي المَهر للرجل، وحتى أغراض البيت.. إيه ناس، وناس! When he said darling, he didn't ask for a Paisa for anything but when he said: marry me, he asked for gold, money, stuff, plates and pots everything, aiyo, he even asked for a .. broom! a broom to sweep the floor! I said: so I can sweep ypi from my heart.. and toss you in the trash! what am I? half-crazy, or a total fool?! الترجمة:- لما قال لي متزلفاً: يا حبيبتي، لم يطلب مني بيزةً واحدة. ولكنه بان واستبان لما جاءني طالبا يدي للزواج.. فوضح كل شيء! طلب ذهبا، ومالا، وأواني منزلية، كل شيء .. بل ياه.. طلب حتى مكنسة! مكنسة تُكنَسُ بها أرضيةُ البيت. ولكني قلت له: قف عند المكنسة! لأني سأكنسك من قلبي، وسأرميك في الزبالة.. إيش قال لك عقلك؟ إني نصف مجنونة مثلا؟ أو مدَّمَّغة الغباء؟! اليوم السادس:كتابٌ أثّر بي: أول مطالعاتي بالعربية وأنا في الخامس الابتدائي كتاب قديم وقع بين يدي بعنوان: «حول العالم في 200 يوم» لأنيس منصور، وبهرني بلغته الخفيفة الراقصة، وقِصصه التي تخلط الحقيقة مع مخيلته النشطة. على أن الكتاب قادني لعالَمٍ فكري مهيب.. عالمُ «طه حسين»، لأن مقدم الكتاب كان «طه حسين» عميد الأدب العربي- رغم أن أنيس منصور من حواريي العقاد، وقد قاطعه العقاد «الزعول» طويلا لأنه لم يتقدّم له لكتابة مقدمة كتابه- و»طه حسين» هو من وصف جملة أنيس منصور بالراقصة، وأحسن الوصف. وفي مدينة عمالية تفتقر للكتب العربية رُحتُ أبحث عن أي كتاب لطه حسين، حتى وجدته بعد عناء عند عامل بناء يمني، وهو أول من عرفت من مثقفي اليمن المبهرين، وأعطاني كتابا قلب عقلي لطه حسين، ونقلني بدوره إلى عالم رجل آخر مثله في العبقرية وفقد النظر. كان عنوان الكتاب «تجديد ذكرى أبي العلاء»، وهي رسالة دكتوراه قدمها «طه حسين» للجامعة المصرية في العام 1914م، ونال منها شهادة العالمية ولقب دكتور في الآداب. على أن طه حسين لم يقلب عقلي كما قلت فقط لإسهابه حول فكر المعري، بل لأنه وضع فكرة جديدة بعقلي الصغير وهي تأثّره بالفكر والقياس الغربي، الفرنسي والإنجليزي، وعلى فكرة يظن كثيرون أن المجتمع الفكري المصري في أوائل القرن العشرين انقسم إلى مدرسة محافظة بقيادة المنفلوطي والرافعي، ومدرسة فكر فرنسي بقيادة طه حسين وتوفيق الحكيم بأثرٍ أقل، ومدرسة فكر إنجليزي بقيادة العقاد والمازني.. ولكني وجدت من مطالعاتي المبكِّرة في فكر طه حسين أنه يميل كثيرا للفكر الإنجليزي، وبرأيي الشخصي أن تأثير «وزدوورث» الانجليزي عليه قد يفوق التأثير الديكارتي الفرنسي. طه حسين أول من أدخلني صغيرا إلى عالم التشكك والرفض ونبش القديم وإعادة وضعه بفكر جديد، وقادني لمنزلقات وأنا صغير حتى تسلّمني مفكرو العقل المحض مثل «كَنْت» و»هيجل» و»نيتشه» و»شوبنهور».. ودخلت في دوامة لم أخرج منها إلا بفضل موجهين ومدرسين لي، وبفضل كبير يعود لعبقريات العقاد.. وكتب الشيخ عبدالرحمن بن سعدي. اليوم السابع:ومن الحُبَّ ما خنق! في مستشفى أمريكي تولّع مريضٌ وهو رجل أعمال هندي بمريض صيني، وتطور التولّعُ إلى محبةٍ عميقة حتى أن الأطباء سمحوا للهندي بخدمة المريض وتسليته مع جهله بلُغته. في يومٍ امتقع وجهُ الصيني وهو يضع قِناعاً يتنفس به الأوكسجين صارخا بوجهه الهندي بالمندرينية: «لي كاي يانج كي جوان».. لم يفهم الهندي ما يقول صاحبه، والمريض يصرخ يكاد ينفجر وريد رقبته:» لي كاي يانج كي جوان» .. لما حاول الهندي بعد مدة استدعاء رئيسة التمريض، جاءت لتجد الصيني جثة هامدة، ووجهه شديد الزرقة كمن مات اختناقا. بعد سنوات زار رجل الأعمال الهندي الصين، وحيث إنه حفظ الجملة المندرينية من المريض الصيني، سأل أحد شركائه الصينين: ما معنى هذه الجملة: «لي كاي يانج كي جوان؟».. فرد الصيني: معناها «ارفع رجلك عن أنبوب الأكسجين»! ألقاكم بإذن الله الجمعة القادمة نجيب عبدالرحمن الزامل