منذ أن مارست الكتابة، وذهبت في طرقها الوعرة، أرفع حجرا هنا، وأضع آخر هناك، أدفع عني وحشة الطريق بالحديث والمسامرة مع الكتاب من الأدباء والمفكرين والفلاسفة والشعراء، لا أملك في يدي خريطة، ولا بوصلة أضعها في جيبي، فقط أرفع رأسي وأسير باتجاه الأفق الرحب، العشب دليلي إلى منابع الفكر، ودائما ما أتبع تعرجات النهر في بطون الوديان، وسهول الغابات، أصل إلى صفاء الماء، وهو يتدفق بفعل الحب، متوجها إلى جذور الأشجار، كما هو متوجه إلى رأسي؛ ليسقي جذور الأفكار. جزر نائية عبرتها، عاشرت فيها أناسا عاديين، يجيئون من كل فج، يقدمون لك خدماتهم بالمجان، وبتقنيات متطورة جدا، ولا يتطلب منك ذلك سوى دقائق معدودة، فأنت بمجرد ما تفتح كتابا، وتنطق شفتاك بأسمائهم، تراهم أمامك بالهيئة التي كانوا عليها في الكتاب. جالستُ حيوانات مفترسة وأكلت معهم. كانت الكلمة حارسي الوحيد، تخرج من أحد كتبي أو من رأسي. وتقف أمامي كلما تطلب الأمر ذلك. كنت أعزل، إلا من الكلمات كنت وحيدا إلا من صداقتها، خائفا إلا تحت ظلال أشجارها، جائعا إلا من ثمار سلالها. لذا، لا أتذكر يوما أني كنت وحيدا، أو خائفا، أو جائعا. وحين يصيبها الملل، ويقتلها السأم، من فرط تنقلها على الدوام، من رأس هذا المفكر، إلى رأس ذلك الأديب أو الفيلسوف. ناهيك عن تقلباتها على أسرة المعاني وفرشها، أقوم بإطلاق بعضها من يدي كالعصافير، إلى فضاء واسع من الهواء النقي، ثم تعود وتستقر ثانية على يدي، بنشاط ومرح أكثر، أما بعضها الآخر، بسبب تقدمها في السن وبسبب تجاربها مع الكتاب، ويأسها من فشلهم معها، فأقدمت مرات عديدة على الانتحار والتخلص من نفسها بالانزواء عن أخواتها خلسة، والذهاب إلى قلعة مهجورة في كتاب قديم مملوء بالخرافات والأساطير، والعيش فيها حتى الموت. لذلك كنت أربط في سيقانها خيطا طويلا، وأطلقها في الهواء مثل طائرة ورقية، وأنزلها بعد أن تكون قد استقرت نفسيا، وذهبت عنها فكرة الانتحار. كنت دائما على الطريق، في وسطه تحديدا. لم تنزلق قدمي ولم أغطس في الوحل. لكنني لم أكن قويا بما يكفي كي أصمد ولا أقع. بل ثمة طاقة في الكلمات، لا أستطيع تفسيرها، ولا أحمل منطقا عقلانيا للحديث عنها. فقط أتوهج وأشع كلما فركتُ حجرا بآخر من أحجار الكلمات، وكأني ذاك المارد الذي يخرج من مصباح علاء الدين ولا يعود. أتوهج وأشع وكأني دونكيشوت حين يحارب طواحين الهواء ولا يستريح. لكنّ التوهج له أثمانه أيضا وله خسارات عديدة، التي لا تنفك تعيد الحياةُ صياغتها من جديد، كلما خبت نورها وانطفأت. فالكلمات حين تطلق لها العنان في داخلك، وتعطيها حريتها المطلقة، فإنها تنحته مثل صخرة كبيرة بإزميل أفكارك ولا تتوقف حتى الموت. بعض الأحيان تصنع من قلبك سمكة تظل تسبح في الشرايين طوال حياتك، وتتغذى على خلايا دمك. أحيانا أخرى تصنع منه أشجارا عالية تسد مجرى التنفس حتى الاختناق. لكنك في كل الأحوال تقاوم كل هذه الفوضى التي تشتعل في داخلك، تقاوم كل هذه الضربات التي تصدر من أيد خبيرة بالفؤوس، ومتمرسة في الحديد. الأجمل هو أن لا أحد يجبرك على إكمال السير إلى نهاية الطريق. هذا إذا اعتقدنا أن له نهاية، لا أحد يدفعك دفعا كي تقاوم رغبة الانعتاق. وحدك من يقرر ما يتوجب عليه القيام به، وإذا ما قررت فعلا، ما عليك سوى أن تبذر السم في حقول كلماتك، وتضع الفزاعات في أرض أفكارك، ثم تقفل راجعا إلى بيتك وتنام. أنت وإرادتك إذا ما أردت المواصلة والاندفاع صوب مجاهل الطريق. الإرادة التي تكون مادتها من العواصف، وشرابها من ضرع السحب، وغذاؤها من ثمار الأرض، هي التي ترفعك عاليا، وتقوي جناحيك وتطير بهما في سماء أصدقائك من الكتّاب ورفاقك من الشعراء، ومعلميك من الفلاسفة الكبار، كما تطير بهما دون تعب في سماء حياتك الخاصة. أما اصطفاق الجناحين على تلة قريبة منهما فهي مجرد استراحة محارب. الآن حين أفتح مخازن الذاكرة، وأجوس في سراديبها، وأستنشق رطوبة هوائها، وأسترجع تلك الوقفات التي دونت فيها ملاحظاتي، وسجلت اقتراحاتي ومواقفي وقناعاتي مع كل الكتاب الذين مررت بهم في ذاك الطريق. أقول هذا الكلام، لا على سبيل عطالتي الآن من هذا الطريق، بل لأني من شدة التصاقي به، ومن فرط تعلقي فيه، أصبحت أرى نفسي فيه، وكأنه تلك المرايا الصقيلة، حد أنك ترى نفسك فيها عشرات المرات أو تراها من غير نهاية مطلقا. أول الأمر جربت دخول بيوت الفلاسفة حين لاحت معالمها وسط ركام من الأتربة والغبار بسبب قلة الزوار وهجرة الخلان. دخلت وكان توجسي يطلق سهامه في كل اتجاه، لأن ما تعلمناه منذ الصغر في تراثنا الإسلامي، عن فكرة الإلحاد والزندقة المرتبطة بالفلاسفة هو من كان يصنع السهام ويطلقها من قوسه. لكن السهام تطيش كلما تقدمت خطوة باتجاه تاريخهم، وفتحت صفحاته، ليتضح لي عن قناعة تامة بعد طول تأمل، فكرة أن نكون أحرارا، ماذا كانت تعني؟ لحظتها لم يخطر على بالي الغرب، ولا تجاربه التاريخية، بل لم أكن مطلعا كفاية على كفاحه في هذا الطريق، حتى لا يقال عني تغريبي، يذهب مع كل ناعق ينعق في الغرب. كل ما كنت أشعر به، هي رغبة تجمعت فيها كل جاذبية الكرة الأرضية، وقذفتني وسط هذه اللجة التي أسميها أفكارا تحررية، لأنها ببساطة كانت تعيد إرادتك إليك من غياهب الأفكار السائدة، وتهدم بيت الطاعة على من فيه، بعد أن تقادم عهده، وبانت التشققات فيه. عودة إرادتك كشخص تام التفكير، هو الكنز الذي خرجت به من بيوت الفلاسفة. لكن مثل هذا الكنز لا يكفي؛ كي يشع ويضيء روحك من الداخل، هنا كان عليّ أن أدخل بيوت الشعراء, وإلا أصبحت كالمهرج الذي يمشي على حبل في سيرك، لينقطع به في منتصف المشية. قبل أن أدخل بيوت هؤلاء كانت الحياة تفكر من خلالي، وبمثال بسيط إذْ مع الفلسفة تكون الحياة كتلة واحدة في تفكيرك ومنطقك ونظرتك للأمور، بينما حين قرأت هؤلاء كانت الحياة شاسعة ومفصلة تفصيلا عظيما. فأنت ترى عاصفة تقلع شجرة من جذورها، زلزالا يزيح جبالا، فيضانا يدمر مدنا، حزنا يقتل صاحبه. ففي كل موقف من هذه المواقف تتجلى الحياة بكل تفاصيلها. لذلك التفكير مع هؤلاء يعينك كثيرا كي تلبس أفكار الفلاسفة روحا متحركة تخرج من جوف الحياة. لا عليك صديقي القارئ، قصة الحرية واستعادة الذات وخروجها من شرنقتها يطيل الوقوف عليها. أكتفي هنا والسلام.