ولد في عُمان/ 1956/ (أقام في العراق، المغرب، فرنسا، الولايات المتحدة، السويد لفترات طويلة). بهذه الكلمات الموجزة يتم اختصار سيرة الشاعر زاهر الغافري في الطبعة التي ضمت دواوينه الشعرية الخمسة، وإذا ما اعتمدنا ذلك التعريف عتبة من عتبات النص التي يمكن لها أن تقودنا إلى أتون التجربة الشعرية التي ضمتها تلك الدواوين، فإن ذلك يقتضي منا قراءة ذلك التعريف من خلال علاقات الحضور والغياب التي يفرضها ما اتسم به من إيجاز يعتمد المحو أكثر من اعتماده الكتابة، فالتعريف الذي اعتنى بمكان الولادة وتاريخها واهتم بالبلدان التي أقام فيها الشاعر والتي تنازعتها دول خمس وقارات أربع أسقط من سيرة الشاعر ما عدا ذلك على نحو بدت فيه سيرة الشاعر سفرا دائما وتنقلا مستمرا يبدأ من تاريخ الولادة فلا يحده زمان ومن مكانها فلا يحتويه مكان، وهو الأمر الذي يحملنا على أن نعيد النظر في كلمة (أقام) الواردة في التعريف فنشربها معنى (ترحل) وهو تلقيح لها بنقيضها ذلك أن ما يبدو لنا في أول الأمر إقامة ظاهرة إنما هو رحيل مضمر. وإعادة النظر في الانحراف عن الترحل إلى الإقامة من شأنها أن تجعل من تلك الأماكن المشار إليها وطنا بديلا للوطن الذي يتم اختصاره مكانا للولادة، وتبدو الرحلة عندئذ فرارا من ذلك الوطن ورحيلا دائما في آفاق بعيدة عنه يحاول من خلالها الشاعر استكمال رحلته التي يبدو أن الولادة كانت وجها من أوجهها المتعددة. الولادة التي يرتكز عليها التعريف الموجز بالشاعر والمتبوعة بالحرص على رصد ما تلاها من رحيل دائم تشي لنا، من خلال سياقها، بأنها لحظة سقوط في العالم، منها تبدأ الغربة التي لا تلبث أن تتكشف لنا عن أنها حالة اغتراب تجعل من كل مكان وجهة للرحيل ومنطلقا للارتحال، بحثا عن عالم لا سبيل للوصول إليه كما لا أمل في الخلاصٍ منه. وكأنما نولد في مكان لكي نقضي العمر بحثا عن المكان الذي كنا فيه أو المكان الذي نحلم به. تنزع حالة الاغتراب عن العالم ما استقر لهذا العالم من معان هي خلاصة تجارب من عاشوا فيه قبلنا وأورثونا تجاربهم وتنزع بذلك ما انتهى إليه الإنسان من ألفة تربطه بالعالم وتجعله قادرا على العيش فيه وعندها لا تغدو الولادة حلقة في سلسلة تتناسل من خالها البشرية بل لحظة خاصة تمثل السقوط في العالم وتستعيد تجربة الإنسان الأول حين هبط من جنة ظلت أشجارها الوارفة وأنهارها المترقرقة تطارده وتحول بينه وبين أن يرتضي العيش في جنائن الأرض التي هبط إليها. في هذا السياق يمكن لنا أن نتفهم أيقونة العمى الذي يشكل أحد مفاتيح التجربة الشعرية عند زاهر الغافري من حيث هو علامة تكرس الانفصال عن العالم وإعلان القطيعة معه، العالم كما هو مستقر في الوعي، وذلك تمهيدا لإعادة التعامل معه باعتباره جملة من الإشارات يمكن لها أن تفضي إلى وعي جديد به يمكن من العودة إلى عالم تلوح معالمه دون أن يتحقق الإمساك بها. العمى نقض للدلالات التي حددت وعي الإنسان بالعالم، فرار من عمى الوقوع في شرك وعي لا تحدده سوى العينين، لذلك يغمض الشاعر عينيه حتى يرى بعد أن أصبحت الرؤيا بالعينين مستحيلة: لا أقدر أن أراك بعد الآن بعينين مفتوحتين وحينئذ يصبح الأعمى وحده هو القادر على الرؤيا: في هذا المكان تبرز من بين الجميع مثل جوهرة في الظلام مغنية عمياء، عينها الثالثة أسطورة منظورة، تتحرك بإيماءة خفية. وبقايا القراصنة ذوي العيون الزرق الذين يعربدون في حانة في بحر الشمال والذين تبرز من بينهم تلك المغنية العمياء هم مثل أولئك الموتى الذين ينامون على الجسر تظللهم شمس الخسارات يبرز من بينهم موسيقي أعمى يغني من بين الأنقاض: على الجسر ينام الموتى. شمس الخسارات عالية هذا المساء. لا أمل حتى للآلهة، لكن موسيقيا أعمى، يغني من بين الأنقاض، عن الاشراقات الكبرى ويحلم بأطياف ماضيه كأن نهر حياته سيعود ثانية إلى المنبع. وحلم الموسيقي الأعمى الذي يقوده إلى المنبع مثل العين الثالثة للمغنية العمياء التي تقودها إلى الأسطورة التي تتراءى من خلفها عناقيد الذهب: عناقيد الذهب التي يحلم بها العميان وكلا المغنية العمياء والموسيقي الأعمى وجه للشاعر في بحثه عما وراء ما تستطيع العين أن تراه: الأعمى في البرية هو أيضا أنا أبحث عن جذر الليل فوق الصخرة المتينة. أنا الذي أتيت إليك كالأعمى حاملا قنديلي الذي اختلط ضوءه بأعشاب المسافة. والليل الذي يظهر جليا مرة ويتراءى خلف القنديل مرة أخرى حجاب آخر يحول دون الوقوع في شرك ما توهم العين بمعرفته. وفي قصيدته التي نشرها على صفحته في الفيس بوك يوم 16 أكتوبر من هذا العام يستعيد زاهر الأعمى والصخرة والليل ومحاولة العودة إلى النبع: شيطانية هذه الليلة وأنا أسير بلا عينين، أعمى في مدينة يحاصرها الأعداء، في المنعطفات أريد أن أصل إلى النبع خارج المدينة لأشرب منه، بعيني ذكرى الحياة هناك سر مخبوء تحت لسان الصخرة. ويكون العمى سبيل الوصول إلى الحقيقة حين يقود النور إلى طفولته: كالأعمى الذي يرشد النور على طفولته بيدين وفيتين. وعندها لا يمكن للحقيقة هي ذاتها إلا أن تكون عمياء مثل الشاعر والموسيقي والمغنية العمياء: الحقيقة طاقة عمياء تحرك هواء الستارة. وحين تتوقف العينان عما اعتدته من تلقي ظاهري للعالم تحل محلهما اليدان اللتان يرشد بهما الأعمى الضوء إلى طفولته، والطفولة عودة إلى العالم في نقائه، طفولة الضوء هي طفولة العالم وعلى نحو لحظة تفتح الوعي على العالم قبل أن يتلوث بالمعنى المألوف له، ويغدو الوعي به حجابا، واليدان وسيلة اللمس الأولى للتعرف على العالم: يدك التي رأت وشمت رذاذا خفيفا على النافذة ... اللمسة أزهرت حين غاب عنها النور. والأعمى الذي يرشد النور إلى طفولته يغدو مثل العراف قادرا على الرؤيا باللمس: كعرافة ترشد باللمس ساقية الضوء. وأرض الحقيقة التي تحجبها الرؤية يصبح اللمس هو الطريق إليها: أرض الحقيقة لا تضاء إلا باللمس. وحين يتحقق ذلك يتحقق نزع العالم من شيئيته فيغدو الماء أبيض كالليل: أحلامي سفحتها الرمال على سريرك، ندمي يعطرك بماء أبيض كالليل. ويصبح البحر أبيض كذلك: البحر أمام بابك ملاذ العابرين البحر أبيض في كفك الزرقاء. واليوم أبيض كذلك: إنه يوم أبيض بفضل الكلمة التي لن تقال. والبياض الذي يكسو العالم خالعا عنه ألوانه الأولى يعيده صفحة بيضاء تبحث عن كلمة ومعنى يعيد وصلها بما يتراءى للشاعر خلف ما يظهر له من العالم الذي يراه فيمضي مطمئنا أن وراء الأفق شيئا آخر مختلفا: لكن بلى يا أخت هناك دوما شيء آخر وراء الأفق. يسقط الزمن: وربما أوشك الزمن أن يسقط من بين أصابعنا فلا نعود نرى في أجفاننا أنهارا كثير. وعندما يسقط الزمن تنتفي الفجوة بين الماضي والحاضر والمستقبل، يسقط معه العالم المرئي، ويمضي الشاعر: أسير نائما، أسيرا، بين نهرين معذبين، تحت سماء لم تعد تقول شيئا. والسماء التي تمثل كل معرفة قبلية بالعالم لم تعد تقول شيئا لأن ما قالته أصبح صفحة بيضاء مفرغة من المعنى مهيأة لمعنى جديد، لم يعد العالم يحمل تلك الأسماء التي سمى بها آدم الأشياء فاستقرت على ما سماها به، العالم يعود بكرا متفتحا على أسماء جديدة ووعي جديد به. والنوم عندئذ هو مهد تفتح الرؤيا لاكتشاف ما لا تكشف عنه اليقظة أو ما لا ينكشف خلال اليقظة، النوم عبور نحو عالم الحلم والغيب نحو أفق مختلف تبدو فيه الإشارة نائمة كذلك في منتصف القصيدة بانتظار الشاعر كي يوقظها: أينما كنتَ تنتظرك دائما تك الإشارة الوحيدة النائمة في منتصف القصيدة. والأرض كلها عندئذ تغدو إشارات تتفتح أمام العينين النائمتين أو المغمضتين المتفتحتين على الرؤيا: نائمة أو مغمضة العينين لست أدري تسترسل في الكلام بإشارات الأرض كلها كأنما تبحث عن بريق الذهب في قاع منجم. والذهب هنا هو عناقيد الذهب التي قال لنا أن العميان يحلمون بها، هي لمعة الكشف أو الانكشاف حين تلوح الإشارة في الأفق. غير أن الوصول إلى عناقيد الذهب يبقى حلما والعالم الذي تم نزع المعنى عنه تحول إلى إشارات تطارد الشاعر في صحوه ونومه وجده وهزله: الإشارات تتبع الشاعر إلى عمق الحانة. وأحلامي، أحلامي محاصرة بلهب الإشارات. وطريق الإشارات مظنة التيه فالإشارة التي تغري لا تصل أبدا: ضيعتني الطرق فأصبحت أسير الإشارة التي لم تصل أبدا. الإشارة طريق إلى الكلمة التي تتنزل منزلة الدليل في هذا التيه، تيه العالم حين تتم تبرئته من دلالاته وإعادته عالما آخر يسكنه شخص آخر غير ذلك الذي ألف العالم وألفه العالم: أنت شخص آخر الآن لأن الكلمة دليلك إلى البراري. والبراري انفتاح الأفق أمام الاحتمالات المشرعة على احتمالات لا تنتهي ولا يحدها ما يمكن أن يجعلها قابلة للاختصار في كلمة تتم محاصرة الوعي فيها وتهيؤها لكي تكون إرثا يحمل وعي الآباء للعالم إلى الأبناء، لذلك تصبح هذه الكلمة الدليل، عودة إلى اللغة الأولى للإنسان، محاولة لإعادة اكتشاف العالم أو القبض على العالم في لحظة انكشاف جديد له عبر الإشارات الدالة عليه: حياتنا بلا قزح ولا قوس ولكن السهام حين تطير من صدورنا نعود إلى الأودية كأنما نعود إلى رحم الكلام. والعودة إلى رحم اللغة هو جوهر التجربة والمهمة الأولى للشعر حين يحاول استعادة دهشة الإنسان الأول يوم أن كان يفتش عن كنه العالم من حوله ويخلع على الكائنات أسماءها، غير أنها ليست بالمهمة السهلة بعد أن انتهى كل شيء، بعد أن توارى العالم خلف الأسماء، وفقد الإنسان دهشته الأولى حين كان يرى العالم لأول مرة ويحاول أن يتعرف عليه ويتلقاه تلقيا كاملا بكل جارحة من جوارحه على نحو يلتقي فيه المتخيل بالمعقول والخرافة بالواقع العالم. العودة إلى رحم اللغة، ليست بالمهمة السهلة بعد أن تلوث بما حملته اللغة من دلالات عبر التاريخ، ومحاولة نزع الأسماء مهمة مهددة دائما بأطياف الذكرى وحضور الماضي الذي يبدو متلبسا في ظلال الأسلاف الذين عبروا حافة الجبل من قبل والذين لا يقي الشبه الأبعد بهم من التعثر في ظلالهم الغريبة: أمشي على حافة الجبل، في ظهيرة وديعة أتذكر أسلافي العابرين، وكنت شبيههم الأبعد. وكلما مشيت كنت أتعثر بظلالهم الغريبة وحيرة الشاعر هي حيرة الأعمى أمام سحابة ماضيه: خذ الألم بقوة الرهان، بقوة الحيرة، حيرة الأعمى أمام سحابة ماضيه. الماضي الذي يبدو سحابة تبعث الحيرة وتربك قدرة الأعمى على الكشف لا يلبث أن يصبح منجلا يهدد رؤية الشاعر ويربك خطواته على اكتشاف العالم والبحث عن لحظة التجلي فيه: ...ما الذي فعلت بحياتك أيها الشاعر وأي طريق ستختار أي نيزك سيعبر قارتك بعد اليوم وفوق رأسك يلوح الأفق كمنجل مقيد إلى ماضيك. هيمنة الماضي تربك مفهوم الزمن: لا أحد يشير إلى الزمن كبلشون عالق في شجرة. يتأبى الماضي على أن يظل ماضيا فحسب، ذلك أن لهذا الماضي حضورا يشكل وعينا بالعالم من حولنا، وعندها لا نكتشف أننا وحدنا المستلبون من قبل هذا الماضي الحاضر دائما بل الزمن مستلب كذلك، فالعالم من حولنا تمت مصادرته، أولئك الآباء أنجزوا المهمة كاملة ولم يتبق لنا شيء ننهض به، فرغوا من تسمية العالم، مضوا وقد سرقوا معهم الدهشة فلم يعد في العالم ما يمكن أن نغامر صوب أسراره،كأنما قد جئنا متأخرين كثيرا عن تدشين العالم، جئنا بعد أغلقت ستارة المسرح وانتهى كل شيء، غدا هذا الماضي ستارا منسدلا بيننا وبين العالم فلا نراه إلا من خلاله، لا نكاد نرى العالم في حضوره وإنما في ماضيه وعندها لا تغدو اللغة اكتشافا للعالم وإنما تكريس لهيمنة الماضي عليه واستلابه له، تنسى الكلمة نفسها وتعود شمسا مطفأة لا خير فيها ولا خيار له غيرها: تماما في ذاك المنعطف الذي ولدت فيه تظهر لك أرواح الزمان تظهر تلك الكلمة المفقودة كشمس مطفأة لكنها مع ذلك هي الأفق الوحيد فوق أشجار الليل. في ذلك الأفق حيث ولدت نجمة لم يلبث أن احتواها الظلام فبقيت غارقة فيه: هناك نسيت الكلمة أن تعيد نفسها إلى الضوء. يتشظى عندها العالم بين النور والظلام، بين العمى والبصيرة، بين الحضور والغياب، بين الحياة والموت، بين الوهم والحقيقة، بين ما يقال وما لا يقال، يطارد الشاعر الإشارات حينا وتطارده الإشارات حينا آخر، توشك أن تقوده إلى الكشف مرة وتخادعه عن الكشف مرة أخرى، ومن بينها جميعا تبرز إشارتان متناقضتان تشكلان أيقونتين في تجربة الغافري وذلك لما يتجلى من إلحاح الشاعر عليهما وتكرارهما عبر دواوينه الخمسة من ناحية وكذلك ما يمنحهما الشاعر من كثافة رمزية تجعل منهما مفتاحين من أهم مفاتيح تجربته، تتمثل الأيوقنتان في البئر والمرآة كقطبين يتنازعان الطريق إلى استكشاف العالم واستقصاء كنه الوجود: لهذا يبحر الحب بماء الركبة بقوة الملاك النائم فوق السرير بين مرآة وبئر وخزانة زرقاء.. .. ومن بين الغيوم، وأنا نائم ينزلق النرد الأبيض وشراع الرسولة والغيوم وماء الركبة والمرآة والخزانة الزرقاء إلى بئر السعادة. العودة إلى البئر عودة إلى الطفولة، إلى لحظة تفتح الوعي على العالم، لتلك اللحظة البكر التي يبدو فيها العالم غريبا ومدهشا، وحين يفارقها الإنسان ويستغرق في عالم أعده الآخرون وهيأوه له لا يتبقى له من ذلك كله غير وجع الفراق وحنين العودة للبئر الأولى مرة أخرى: كان ينبغي أن أظل في البئر في ماء الليل بين الحصى والرماد.. ... لذا ستعود حياتي كلها إلى هناك إلى تلك البئر التي لم يشرب منها غير الأرامل واليتامى والمنتحرين. ولا يلبث هذا الحنين وتلك الحسرة أن تجعل من تلك البئر والعودة إليها حلما: هناك حيث يستيقظ الفجر على طفولة الصحراء ستكتشف في أحلامك بئرا فارغة وخاتما غريبا في يد غريبة. والخاتم الغريب في اليد الغريبة فض لأسرار تكون فيها الغرابة كسر للإلفة التي تنزع عن العالم لذة الإندهاش به والتعرف عليه. وإذا كان الشعر محاولة للعودة إلى رحم الكلام فإن البئر هي رحم العالم التي من شأن العودة إليها أن تشكل خطوة أولى وأساسية لاستعادة بكارة العالم وإعادة خلقه مرة أخرى: نعود إلى الأودية كأنما نعود إلى رحم الكلام يكفي أن ننقل البرق إلى حافة الغابة وأن نعيد الدخان إلى بئرنا الأولى العودة إلى البئر طقس عبور العالم والشاعر واللغة إلى الأرض المخضبة بالحلم: علامة الحيرة في وجهه هي الرسالة الأخيرة التي لن تصل إلى أحد النوافذ مغلقة وعليه أن يخرج إلى أرض أحلامه ليقطف تلك الزهرة المسمومة التي سمع بها دون أن يراها ومثل سجين يدحرج صخرة يقوده الكلام مع نفسه إلى آبار الطفولة. وتتقلب البئر في كلام السجين الذي يدحرج الصخرة مع نفسه فتغدو بئرا للسعادة وبئرا للنسيان وبئرا للحياة وبئرا للغفران وبئرا للذاكرة غير أنها تبقى في كل أحوالها النافذة الأولى التي تطل على العالم: النافذة بئر العالم الأولى. في هذا السياق يمكن لنا أن نتفهم أيقونة العمى الذي يشكل أحد مفاتيح التجربة الشعرية عند زاهر الغافري من حيث هو علامة تكرس الانفصال عن العالم وإعلان القطيعة معه، العالم كما هو مستقر في الوعي، وذلك تمهيدا لإعادة التعامل معه باعتباره جملة من الإشارات يمكن لها أن تفضي إلى وعي جديد به يمكن من العودة إلى عالم تلوح معالمه دون أن يتحقق وحينئذ يصبح الأعمى وحده هو القادر على الرؤيا: هكذا كعراف تنام بين يديه طرق بعيدة ومجهولة فلا يختار سوى طريق المرآة حيث يصادفه قرويون يحملون ظلالهم الثقيلة على الأكتاف. المرآة متاهة لا تقود الأخت في البراري لغير الضياع والموت: الأخت بمرآتها تستنجد هائمة في البراري الأطفال كنز الطبية أيضا كانوا هناك موت مثلما النظر في المرآة. المرآة نقيض البئر وإذا كانت البئر موطن السر الذي يفتش عنه الشاعر فالمرآة تسدل حجابا دون ذلك السر ما دامت مسكونة بما تركته على صفحتها ذكريات الآخرين وخطواتهم التي خلفوها على الأرض، ولذلك يغادرها الشاعر بحثا البئر حيث يكمن ماضيه هو المختلف عن ماضي المرآة لا سبيل له إليه غير النسيان: أتيت وفي يدي أرض ناقصة، وكأس مليئة بالرمل. كل معجزة لؤلؤة في الطريق يسقط رذاذ الماضي خفيفا في المرآة. وعلى بعد خطوة مني تلد الأساطير أزهارا وحشية أريد أن آكل ثمرة النسيان. ولكن أقسى الظلال ما يترك طعنة في الظهر. أتيت لأبقى كذئب في كهف يحن إلى آبار ماضيه. غير أن مخاتلة المرآة لا تلبث أن تجعلها بئرا أخرى فكما تقوده البئر إلى الطفولة تبدو لحظة الولادة منعكسة كذلك في المرآة: الطرق المحرمة تظهر تحت أقدامي، يظهر ملاك الفجر من النافذة يظهر الصمت في عينين نادمتين، يظهر الزهاد المنفيون في جبال بعيدة، يذكرونني بالمرأة التي حلمت بفردوس حياتها في أرض الأموات. تظهر المرأة نفسها مثل حيوان جائع يأكل عشب ماضيَ تظهر حياتي كلها في مرآة الولادة أصلي كطائر الرخ في صحراء لا يعرفها أحد. وبين المرأة والمرآة تشابه في اللفظ لا يلبث أن يفضي إلى تشابه في الدلالة يقود كل من الكلمتين نحو الأخرى حتى عد ابن سيرين الزواج بامرأة أو شراء جارية تفسيرا لمن يرى مرآة في حلمه. وحين تتنزل الحقيقة أخيرا على الشاعر وتعود الحجارة عذراء وتكتسي الأحلام رائحة الأبدية وتكشف تلك الآبار أسرارها تتجلى تلك الأزهار القابعة في عمق البئر على صفحة المرآة: ها هي الحقيقة تنزل بين يديك أخيرا: ذات يوم كان لأحلامك رائحة الأبدية أنظر إليك كمن يستجدي حجارة عذراء أنا ظلك الذي كان مرآتك وقد عكست أزهارك في بئر. وبين البئر والمرآة تنتشر الإشارات تلوح في الغابة والبحر والشاطئ والجبل والوديان والطرقات والأزهار والمغنية العمياء والمقهى والحانة والفقراء والأرامل والكادحين، إشارات يتلو بعضها بعضا تترصد الشاعر حينا ويترصدها الشاعر حينا آخر،وتغدو تجربة زاهر في هذا السياق تجربة متماسكة كأنما هو يقلب العالم بين يديه ويكتشف ظاهره وباطنه، خفاءه وتجليه، امتلاءه بالدلالة حد الفيض وفقره من المعنى حد العدم، تجربة متماسكة تغري بقراءتها جيئة وذهابا وعودا على بدء يفسر ما تقدم منها ما تأخر ويغري ما تأخر منها بإعادة قراءة ما تقدم، منجزا بذلك تجربة متفردة في سياق الشعر العربي الحديث من شأنها أن تشكل إضافة نوعية للشعرية العربية المعاصرة.