لم يتعرض شعب في التاريخ البشري الحديث لما تعرض له الشعب السوري من كوارث ونكبات خلال السنوات الثلاث الماضية، فإن كان ما حدث خلال هذه الفترة هو نتيجة طبيعية لتركيبة النظام الأمني العسكري المافياوي التوريثي الذي تعامل مع سوريا بصفتها مزرعة يحق له التصرف بها كما يشاء وتعامل مع السوريين بصفتهم أُجراء ومزارعين يصح عليهم ما يصح على العبيد من عقاب وثواب، إلا أن ما حدث يتجاوز حتى هذه التركيبة التي استخدمت خلال الخمسين سنة الماضية (زمن حزب البعث) في تحديد شكل سوريا وشكل نظامها. فصحيح أن سمعة النظام السوري لم تكن حسنة بما يخص الفساد وتطوره خلال العقدين الماضيين وامتداده وتغلغله في المجتمع والأهم وضوحه وعلانيته وكأنه سياق طبيعي، وكذلك بما يخص قمعه للحريات وكم الأفواه ومنعه لأي صوت معارض أو مخالف من الحياة وتعطيله الكامل لأية حياة سياسية ومدنية سورية، وصحيح أيضاً أن السوريين لم يكن غائباً عنهم ما قد يفعله النظام بهم في حال فكروا بالانتفاضة عليه، حيث مازالت مجزرة حماة التي ارتكبها الأسد الأب في ثمانينيات القرن الماضي مخزنة في الطبقات السفلى من الذاكرة الجمعية السورية، إلا أن العنف المتنوع الذي استخدمه النظام ضد السوريين الثائرين تجاوز كل الأوصاف التي يمكن أن يوصف بها نظام كهذا وتفوق على قدرة الخيال على التصور، فقصص التعذيب التي يرويها من كتبت له النجاة من المعتقلات السورية لا يمكن تخيلها حيث يتفوق خيال الإجرام على نفسه في كل رواية وقصة وحكاية، أنواع من فنون التعذيب تمارس على المعتقلين تستخدم فيها وسائل التعذيب من العصر الروماني وحتى آخر أساليب التعذيب حداثة، الموت في المعتقلات بالمئات يومياً وهؤلاء مازالوا في عداد المعتقلين أو المفقودين، حيث قد ينام المعتقل بين الجثث لأيام عديدة ريثما يتم نقلها إلى مقابر جماعية مازالت مجهولة حتى الآن، وهذا الإجراء متبع مع المعتقلين الذين لا يعرف بهم أحد ولم يسمع بهم أحد، بينما المعتقلون الذين يتم تسليط الضوء عليهم إعلامياً أو في صفحات التواصل الاجتماعي ففي حال موتهم تحت التعذيب يحظون بميزة إخبار ذويهم وعائلاتهم وربما تسلم جثامينهم لذويهم ليتم دفنها على الطريقة السورية الحديثة: مراسم دفن سريعة يحضرها بعض أفراد العائلة فقط، أما الحزن فتلك ميزة أخرى يتمتع بها ذوو المعروفين من المعتقلين لكنها غير متاحة لذوي الآخرين المجهولين، هذا إن كان قد بقي من عائلات المجهولين من هم على قيد الحياة أصلاً، فغالباً ما يكون هؤلاء، بحسب ما يخبر الناجون من المعتقل، ممن تم اعتقالهم عند حملات الاقتحام والمداهمات والإعدامات الميدانية لعوائل بكاملها، حيث يلملمون من يجدون في طريقهم ممن شاء له سوء حظه أن ينجو من الموت وقتها ليموت في المعتقل موتاً بطيئاً وحيداً ومذلولاً ومقهوراً بعد أن أفرغ سجانوه كل أنواع حقدهم عليه، وهكذا يصبح الموت السريع، برصاصة موجهة أو طائشة أو بقذيفة أو بتفجير واحدة من الأمنيات السورية، بينما يصبح الموت الطبيعي حلماً من الأحلام السورية التي باتت محصورة بأشياء صغيرة ومحددة قد يكون أجملها، النجاة من الاعتقال. قال لي شاب اعتقل لدى المخابرات الجوية لمدة خمسة أشهر وخرج مصاباً بأمراض عديدة تحتاج زمناً طويلاً لعلاجها ومازال حتى اللحظة يرتجف وهو يحكي عن تجربته في المعتقل: لا يمكن للجحيم أن يكون أسوأ من هذا.. كنت كل يوم أبحث عن طريقة للانتحار السريع .. لا أعرف إن كنت سأستطيع مواصلة حياتي ذات يوم. بينما تخبرني صديقة لي اعتقلت أكثر من مرة خلال السنتين الماضيتين أنها حملت معها في رحلتها للخروج من سوريا مادة سامة كي تأخذها في حال تم اعتقالها أثناء هروبها، قالت: أفضّل الموت على العودة إلى المعتقل. ولعل فيما تناولته روايتا، القوقعة لمصطفى خليفة ورحلة إلى المجهول لآرام كربيت، والاثنان عاشا تجربة الاعتقال الطويل في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي ما يعطي صورة واضحة عن الحالة المهولة في المعتقلات السورية، غير أن ما يحدث منذ 2011 وحتى الآن أشد هولاً وفظاعة حيث الرغبة في الانتقام ممن ثاروا وتحدوا الأسد (المقدس) بالنسبة لمؤيديه هي أيضاً مهولة، وحيث الإحساس بقرب النهاية والإحساس بالخسران يجعل أصحابه يتصرفون دون أي وازع أخلاقي أو إنساني أو قانوني وهم أساساً من الخارجين عن هذه القيم . ومثلما ستنتج المعتقلات السورية خلال فترة الثورة جيلاً من الشباب المعطوبين جسدياً ونفسياً، ستنتج أيضاً أدباً جديداً سيحتل مساحة كبيرة في الأدب السوري وسيسمّى: أدب الجحيم.