مرة أخرى تثار أسطورة مصمم الأزياء الفرنسي سان لوران من خلال السينما، و ذلك في الفيلم المسمى "أيف سان لوران" للمخرج والكاتب الفرنسي بيرتراند بونيلو، الذي يعرض حالياً بصالات السينما بباريس. و إيف سان لوران ابن عصر ذهبي في الثقافة الأوروبية "جاء في الوقت المناسب وانسحب من عالمنا في الوقت المناسب" حسب تصريح شريكه المخلص " بيير بيرجيه "، إذ ربما لايسمح عصرنا بنشوء قمم كتلك التي ظهرت في الستينات والسبعينات من القرن العشرين. ايف سان لوران ومنذ طفولته كان ينهمك في تصميم دمى معقدة من الورق، وفي مراهقته كان يصمم الثياب لأمه وشقيقتيه، ولقد انتقل لباريس حين بلغ الثامنة عشرة، والتحق بمعهد تصميم الأزياء. وهناك بدأت تصميماته تلفت الأنظار، يقول رئيس تحرير مجلة فوج، ميشيل دو برونهوف " سان لوران يسحرني." وهو من لفت انتباه ديور له حين فاز بمسابقة التصميم، فعينه للعمل في داره عام 1954 و كان في الثامنة عشرة من عمره، وسرعان ما عين رئيساً للدار بعد ثلاث سنوات حين وفاة صاحبها ديور. جاء سان لوران بهذه الرسالة لعالمنا وتسخر له فريق مذهل يحول شخبطاته لواقع يسعى على الأرض بقيادة " بيير بيرجيه" ، الذي لعب دور مدير الأعمال بل والمربية والمدلل الذي يغدق عليه ليجعل حياته أسهل، ولقد كانت علاقتهما عاصفة : " ففي يوم تجدهما قريبين. وفي اليوم التالي تجدهما يتشاجران ويصفق بورجيه الأبواب بغضب وراءه. " لكنه ظل وفياً له خلال حياته كمدير أعمال شرس ليدير عنه الصفقات ويرتب لصعوده المالي، ولا يزال مخلصاً له للآن بعد سنوات من وفاته. يقول بيير بيرجيه: " لكل رجل جانبه المظلم والمضيء، حياتي مع إيف سان لوران لم تكن قصة جنيات ساحرة." ونذكر أن أم سان لوران كانت تنتقده ملاطفة وحين كان في قمة شهرته، قائلة " ما الذي تصلح له يا سان لوران؟ فأنت لا تعرف كيف تستبدل لمبة المصباح المحترقة." و كان يرد عليها،" لكن لماذا أبدل المصباح وهناك بيرجيه الذي سيقوم بتبديله." تدرك هنا أن لوران الذي ولد عام 1936 في وهرانبالجزائر الفرنسية، لم يخلق ليكون رجلاً عادياً وإنما كمُبَلِّغ لهذه الرسالة الفنية، المتمثلة في تصميم الأزياء التي غير بها مفهوم التعامل مع جسد المرأة. وقيل عنه بأنه أكثر المصممين تأثيراً وشهرة، ولقد أعاد إحياء الأزياء وأخراجها من رماد الستينات، وصمم مجموعته المعاصرة المعروفة باسم ( الجاهز للارتداء/ ريدي تو وير، التي اشتراها الأميركي توم فورد عام 1999) و هو أول من استعمل التويد قماش الصوف السميك ذي الملمس الناعم لثياب النساء، وابتكر البذلة الرجالية التوكسيدو للسهرة، وأول من استعمل مرجعيات من حضارات غير أوروبية في إثراء تصميماته، و أول من استعمل العارضات من الأعراق المختلفة. وهو من قال: " تموت الموضة ولا يبقى الا الأسلوب المتفوق والأناقة ." وحين نتعمق للبحث عن النور والعتم في هذه التركيبة المبدعة نجد البذرة التي شكلت المأساوية فيه، فلقد تولى إدارة بيت ديور للأزياء وهو الحادية والعشرين من عمره وهو نجاح جد مبكر في موقع لايحلم باحتلاله الكثيرين من المبدعين في عالم الموضة، ولقد أنقذت المجموعة المبدعة التي صممها لربيع 1968 مؤسسة ديور من إفلاس وشيك، بل وكتبت الفيجارو الجريدة الفرنسية الرئيسية "لقد أنقذ سان لوران فرنسا" حين ألغى بطانة الأكتاف وألغى المشد من ثياب النساء وترك الثوب يتأرجح من الكتفين منسدلاً بحرية على الجسد مطلقا بذلك حيوية المرأة. من قمة نجاحه هذا تم تجنيده وإرساله للحرب في جبهة الجزائر عام 1960، حيث تعرض للإيذاء الجسدي والنفسي من قبل رفاقه الجنود، ولم يمض في العسكرية غير عشرين يوماً حين تعرض لأزمة نفسية أدخلته المستشفى، حيث عولج بكميات ضخمة من المهدئات والصدمات الكهربائية التي زادت من زعزعة سلامه النفسي، واستفحلت حالته حين بلغه نبأ فصله من عمله بديور، ولقد أنقذه من المستشفى بيير بورجيه تاجر الفن الصغير الذي تعرف عليه في حفلة بباريس و أُعجب بإبداعه، ولحق به عندما سمع بمرضه، وقضى الوقت إلى جواره يمرضه حتى شفي، و لما غادر المستشفى ورفضت مؤسسة ديور إرجاعه للعمل ساعده بيرجيه على مقاضاتها على ذلك الفصل التعسفي، وحصلا من ديور على تعويض مالي قدره 48000 جنيه استرليني، قام الشريكان باستثماره في تأسيس شركتهما الخاصة بإسم إيف سان لوران، مستعينين بمساهمة شريك أميركي جيس ماك روبنسون لتغطية رأس المال المطلوب و قدره 700000 دولار. يقول سان لوران في سبب تحمسه لتقديم تصميماته: " يؤلمني وبشكل خاص أن أرى الموضة تحول المرأة لضحية ولكائن مثيرة للشفقة." وهذا ما تجنبه في تصاميمه حين منحها القوة محدثاً ثورة في ثياب النساء غيرت كيف تلبس المرأة و كيف تشعر و كيف تنظر لذاتها. يدهشك أن إيف سان لوران ورغم الشهرة التي بلغها لم يكن يشعر بتحققه كفنان، وحيث إنه في الستينات والسبعينات لم يكن تصميم الأزياء يعتبر فناً مثله مثل التصوير، فلقد كان هناك توق لدى سان لوران رغم نجاحاته الساحقة ليكون مثل الفنان ماتيس، مثله كمثل المصور الشهير كارتييه بريسون الذي ترك دوره كمصور عظيم ليصير فناناً متواضعاً. و كان هناك شغف مشترك بالغريب بين سان لوران و ماتيس، فلقد تأثر كلاهما بمشاهد عاشاها في شمال أفريقيا، فلقد حرص سان لوران على زيارة المغرب العربي مستجماً ومستلهماً، بل وله بيته الشهير بمراكش الواحة وحوله حديقة الماجوريل، وهي تحفة مفتوحة للزوار، بزواياها المدهشة المرصوفة بالزليج الأزرق، وطنافسها الزاهية المتعددة الألوان وجدرانها الزرقاء اللازوردية، بلون النيلة الأزرق المشهورة في أصباغ مراكش. ولقد توج سان لوران كملك للموضة، اللقب الذي أثقله وعزز من اضطراباته النفسية وإدمانه، و كان يشكو: ( لقد توجوني ملكاً، لكن أنظر ما حدث للملوك الآخرين بفرنسا." وقال:" ذات مرة كنت أعاني من عذابات كبيرة، بحيث خطر لي أن اتناول كل البرونز الذي استعمله في تصميماتي، وأربطه حول عنقي، وأقذف بنفسي في نهر السين."! كان وبشكل سري يتلذذ بعذاباته و يكتبها نثراً، مقلداً الكاتب مارسيل بروست، و يقول:" أنا و قبل كل شيء مفتون بوعيي بعالم في حالة تغير مرعب." فرغم إبداعه ونجاحاته وثرائه الطائل فلقد ظل يعاني من مشاكل عاطفية واكتئاب جعله يعتمد أكثر على المخدرات. الستينات والسبعينات كانت مرحلة ذهبية في تصمميم الأزياء اذ حفلت بمصممين أفذاذ مثل أيف سان لوران وشانيل، مصممون قادوا لتغيير حياة المرأة في أنحاء العالم، و لم يكتفوا بالدور الجمالي لتصاميمهم وإنما زحفوا للتأثير في الحقل الاجتماعي العملي ، لقد غيرت ثيابهم النظرة للمرأة و مظهرها و بالتالي لدورها الاجتماعي. كان سان لوران الأول في العديد من صرعات الموضة وكلما ابتكر صرعة اعتبرها النقاد ممثلة لروح العصر، فلقد سبق المصمم جوتييه حين اقتبس من الهيئة القبلية الأفريقية، فألبس النساء حمالات صدر من القواقع، وسبق أيزي مياكي فألبس العارضات أقنعة للجسد من المعدن على جونلات من الحرير، وسبق بسنوات المصمم لاكروا وجالياني في تقديم أزياء ريفية من ثياب الفلاحين، وله مجموعة مقتبسة من المغول والروس وشمال أفريقيا والشخصيات البروستية. وهو أول مصمم يصور نفسه عاريا في الدعاية لعطره. و في سنواته الأولى عام 1960 عرف بأنه الولد الشرير (باد بوي) في عالم الأزياء، ومنعت النساء من دخول المطاعم إذا كن يرتدين البذلة والبنطال من تصميمه، التي صارت رمزاً لاستقلالية المرأة، ووعيها بسلطان مظهرها. قال سان لوران عام 1982 : " أنا لم أعد معنياً بالتجديد ولا الحسية، وإنما بالكمال في أسلوبي." يصف بيرجيه في مقابلة أجراها عام 2012 الرسالة التي حملها سان لوران للعالم:" قبل أن أعرف سان لوران كانت لي علاقة مع مصممي أزياء، و لكنني لم أكن أنظر لتصميم الأزياء بصفته فناً فذا ، لكن و بعد أن رأيت المجموعة التي صممها سان لوران لكريستيان ديور عام 1958 حصل داخلي انقلاب خطير، لقد ادركت أنني غبي في نظرتي لتصميم الأزياء، عرفت يومها و بيقين أن سان لوران سيصير مصمماً عظيماً." لقد غير سان لوران النظرة لتصميم الأزياء بحيث صار يعتبر فناً يضاهي الفنون الجميلة الأخرى. وبالنهاية فلقد نجح ايف سان لوران في أن يضع نفسه بين أهم فناني القرن العشرين بما حققه لعالم الأزياء وللنقلة التي حققها للمرأة ، ولقد تأكدت تلك الشهادة بعد وفاته حين تم تخصيص معرض استعادي خاص لأعماله في القصر الصغير بباريس عام 2010 تحت رعاية السيدة الأولى حينها كارلا ساركوزي، وفتح بذلك الباب للاعتراف بتصميم الأزياء كفن تتكرس له المتاحف الجادة والصارمة في نظرتها للفن.