تغريدة صالح الشيحي حول ملتقى المثقفين، وما أثارته من ردود فعل عنيفة لفتت انتباهي ليس لذاتها بل لطريقة التعاطي المجتمعي تجاه فئة المثقفين. ويحسن بي أن أحدد للقارئ موقفي من كلام الشيحي وردود بعض المثقفين عليه كي أريح القارئ من عناء وضعي في ذلك الصف، أو ذاك قبل أن أتناول موضوع هذه المقالة، ألا وهو الموقف المجتمعي من المثقفين. فإذ أرفض تماماً موقف الشيحي ولغته التحريضية، فإني بالمقابل أدين اللغة السلطوية التي لاحظت أن بعض المثقفين استعملها ضد الشيحي. مثلاً، أحد ضيوف الملتقى أدان كلام الشيحي لأنه رآه اعتراضاً على وزارة الثقافة، وما المشكلة في أن يعترض شخص ما على إحدى الوزارات ومشروعاتها؟ ما أثار انتباهي في كل هذا الموضوع هو التوجس «الفطري» من قبل قطاعات من المجتمع تجاه فئة المثقفين. فتغريدة الشيحي جاءت بالنص التالي: «ما يحدث في بهو ماريوت على هامش ملتقى المثقفين عار وخزي على الثقافة.. آمنت أن مشروع التنوير الثقافي المزعوم في السعودية يدور حول المرأة». في هذه التغريدة ثلاث كلمات تمثل ركيزة الهيجان الذي دار حولها هي: «خزي وعار» و»المرأة». هذه الكلمات، ربما مع ردود الفعل العنيفة عليها، سهلت وضع القضية كلها في السياق العتيد: ليبراليون يريدون سفور المرأة مقابل إسلاميين يخوفون الناس منهم. لم تتضمن التغريدة أي وصف تفصيلي لسلوكيات تجعل المرء يقتنع بأنه حدث فعلاً أمور جالبة للخزي والعار من قبل المثقفين بحق المرأة، على افتراض أن المثقفين هم ذكور فقط، كما توحي التغريدة. لكن المواجهة التلفزيونية في برنامج «يا هلا» بين الشيحي وبعض معارضيه بيّنت أن الخزي والعار كان كشف المرأة لشعرها! أي أن ما وصف بالخزي والعار وما حشد قوى اجتماعية خلف الشيحي لم يكن إلا سلوكاً يمكن ملاحظته يتكرر يومياً في مولاتنا ومستشفياتنا ومطاعمنا. لكن، ردود الفعل في المواقع ذات الصبغة الشعبية تبين وكأن الذي حصل في فندق الماريوت كان فعلاً سلوكاً مخزياً وجالباً للعار، ومن هذه الردود ما كتبه الشاعر منيف السلماني حول الموضوع، وهي أبيات مشبعة بمعانٍ وألفاظ وإيحاءات قاسية جداً، كما وجدت في صفحة تويتر للداعية حمد الحريقي بيتان موجهان للشيحي على شاكلة أبيات السلماني، أما في بعض المواقع الإلكترونية فإن ردود فعل القراء تظهر الشيحي بصورة البطل لرفضه «الخزي والعار». كتب أحد القراء موجهاً كلامه لصالح الشيحي في موضوع كتب في صحيفة سبق عن قضية الماريوت ما نصه: «رد بسيط يا أستاذ صالح على مصداقيتك هو ما تجده الآن في صحيفة المواطن الحقيقية (سبق) فقد وصل الرد 333 وكلهم معك ولا يوجد مخالف لمصداقيتك». ولم يكذب القارئ، ففعلاً كانت الردود جميعها مع الشيحي في وصفه لما حصل بأنه خزي وعار. يبدو من تلك النصوص، وغيرها كثير، أن الذهنية الشعبية تتجه مباشرة إلى تصور أن ما حصل في بهو الفندق كان سهرات سرية يتبادل فيها المثقفون والمثقفات الغرام، رغم أن إجابات الشيحي في اللقاء التلفزيوني عما شاهده فعلاً توضح أن كل ما في الأمر كان سلوكاً يتكرر بشكل يومي في فضاءات مختلفة للمدينة المليونية، فهو لم يستطع أن يضرب أمثلة على الخزي والعار سوى ظهور شعر نساء في البهو، وهو أمر قد يصادفه المرء في أماكن كثيرة من رياض 2012، أي أنه أمر معتاد في حياتنا اليومية، إن السؤال، والحالة تلك: لماذا ذهبت الأذهان إلى أن أمراً مخزياً وغير معتاد حصل فعلاً في بهو الفندق؟ يمكن الإجابة ببساطة عبر ثنائية: إسلامي/ ليبرالي، أي أن حدة الاستقطابات بين هذين التوجهين الفكريين تلغي إمكانات التأمل الموضوعي فيما حصل في بهو الفندق، ومقارنته بالسلوكيات اليومية في أسواق المدينة وفضاءاتها. وربما في هذه الإجابة كثير من الصحة. لكن، يمكن النظر للموضوع من زاوية أخرى. هناك حالة مجتمعية معروفة في الدراسات الإنسانية للمثقفين تسمى «العداء تجاه المثقفين» Anti-Intellectualism. وفق هذه الحالة، ينظر للمثقفين بوصفهم طبقة متعالية متعجرفة تحمل قيماً وأفكاراً تختلف عن القيم السائدة في المجتمع وأفكاره، بل تبدو أقرب لقيم الغرباء والأعداء. إنهم آخر، «ليسو جزءاً منّا... وربما يشكلون خطراً علينا» (موسوعة وكيبيديا). تصور فئة المثقفين كأنها تهديد للإجماع الأخلاقي أو الوطني. في التجربة الغربية، يمكن التمييز بين نوعين من معاداة المثقفين. الأول، مرتبط بالأنظمة الشمولية الديكتاتورية كالفاشية والنازية والستالينية. صعّدت تلك الأنظمة موجة معاداة المثقفين، وتزلف قادة تلك النظم لشعوبهم بمعاداة المثقفين. في تلك التجارب، تم تصوير فئات المثقفين باعتبارهم مغتربين عن واقع مجتمعاتهم خارجين عن الإجماع الوطني ومصدر خطر على منظومات القيم. ولذا، يصبحون مصدر تهديد للمجتمع، مما يسهل قمعهم. النوع الثاني مرتبط بالخطاب الشعبوي، الذي نراه في خطاب القوى اليمينية في الأنظمة الغربية. في أمريكا مثلاً، والتي تعد أقرب لحالة عداء المثقفين من أوروبا، تلصق بفئة المثقفين تهم الإلحاد والزندقة والانحلال الاخلاقي والتعالي وحتى خداع الفئات الشعبية، بما يملكه المثقفون من مهارات وقدرات على الإقناع. إنتاج صالح الشيحي باعتباره بطلاً فقط لأنه وصم سلوك الرجال من المثقفين مع النساء منهم بأنه خزي وعار يصلح حالة مناسبة لإظهار مدى تغلغل حالة الارتياب المجتمعي في المثقفين والتصورات الذهنية السلبية حولهم.