في مساء يوم الأربعاء 12/1/1436ه الموافق 5/11/2014م قوضت يد المنون – ويد المنون قوية لا ترحم - ركنًا شديدًا من أركاننا، له في طوايا القلوب مركزه المنيع، وبين حنايا الضلوع مكانه الرفيع. في ذلك المساء انتقلت أمي إلى الرفيق الأعلى. وكنت إلى وقت قريب من ذلك التاريخ ألتمس الأمل في كل زاوية من زوايا السماء أن يمد الله في عمرها. كانت أمي: منيرة بنت عبدالعزيز بن إبراهيم العسكر (1341-1436) أمًا لا يجود الزمان بمثلها، وهذا يكفي إذ لا أحب أن أسترسل في معنى ومبنى صفاتها وأخلاقها وأنا أحد أبنائها، فشهادة القريب مظنة. ولدت أمي في القرن الماضي في ناحية من نواحي المجمعة تُدعى: العلاوة. وهي حيازات من غابات النخيل الباسقة، شكلت مع مرور الأيام ما يشبه القرية. ويكاد المرء لا يعرف عن ماضي والدتي إلاّ ما يعرف عن تاريخ أمهاتنا وجداتنا السيدات الفاعلات العاملات المؤمنات رحمهن الله. شعرت بعد وفاة أمي باليتم الحقيقي، وانثالت عليّ أفكار لا تبارحني كلما فقدت عزيزًا، ذلكم هو الموت. فكلما فكرت في أمر الموت ازددت حيرة. ولعل غموض الموت سبب أصيل للحيرة التي يعانيها الإنسان في كل زمان ومكان من جرائه شعرت بعد وفاة أمي باليتم الحقيقي، وانثالت عليّ أفكار لا تبارحني كلما فقدت عزيزًا، ذلكم هو الموت. فكلما فكرت في أمر الموت ازددت حيرة. ولعل غموض الموت سبب أصيل للحيرة التي يعانيها الإنسان في كل زمان ومكان من جرائه، ذلك أن الموت يقسو فيخطف العزيز بين أهله وذويه. وقد يحاول كثير من المرزوئين - كما حاولت في يومي وأمسي - التجلد والتماسك، فيظهرون الرضا والاستسلام بضع ساعات، ثم تهب عليهم الذكريات الموجعة فتُطير الأمن وتُمزق الصبر. ويصبح الصابر القانع، كالهالع الجازع حتى يمن الله عليه بالسلو مرة ثانية. أما اليتم الحقيقي فيصوره من قال: يظل الرجل طفلاً حتى يفقد أمه، فيشيخ فجأة. وهذا ورب البيت ما عرفته بفقدان أمي. وصدق الشاعر: وكان العُمرُ في عَيْنيكِ أمناً وضاع العمرُ يومَ رحلتِ عنّي وهل عليّ أن أبرّ أمي بكتمان مصيبتي فيها. نعم عليّ ذلك ما استطعت سبيلًا، اتباعًا لهدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقد ورد في الأثر: من كنوز البِّر كتمان المصائب. والعرب تقول في أمثالها: البِّر كتمان المصائب. هذا نعرفه ونعرف أيضا أن الصبر سجيةُ المؤمن وعزيمة المتوكل، وسبب دُرك النُّجح في الحوائج، وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب. لكن عند النوازل الواسعة يتجلد المرء ولا إخاله صابرا. ذلك أن الجزع استكانة والصبر قساوة. والحزن يقتل والتجمل يردع. فلا عليّ إذا ما أظهرت شيئًا من الجزع وقلة الصبر والله غفور رحيم. والصدق أنني لا أعرف كيف أخرج من حزني بعد وفاة أمي، لأنه حزن بحجم جبل، وهو حزن يسكنني ولا يفارقني، وكلما حاولت الانفلات يرجع على بكلكله، وهو حزن يتجسد في صورة وجه أمي، لقد راعني فراقها، ويزداد مع هذا حزني عليها. ذلك أن فقد أمي رزء يفوق أي رزء عرفته في حياتي. وصدق الشاعر الذي أحسبه مر بتجربة مثل ما مررت به: كأني إذا نعى الناعي حبيبي تطاير بين جنبيّ الشرار ما أسمج وجه الحياة من بعدك يا أمي. لكِ الله يا أمي فقد تركت في القلب جرحًا لا يندمل، وفي النفس لوعة لا تخف. لكِ الله يا أمي فهذه سيرتك عاطرة، والحياة بين الناس سير، وهذه ذكراك باقية والحياة على ممر الأيام ذكرى. ففي رعاية الله أيتها الراحلة الكريمة، وفي جنبات الخلد والفردوس مقرك ومقامك إن شاء الله. والتسلي باب من أبواب الرحمة، لكن يختلف الناس في هذا الباب. فبعضهم يتسلى بأخبار وأشعار التعازي والمراثي، ويجد سلوة في ذلك. وبعضهم وأنا منهم لا ينفع معه التسلية حتى لو قرأ كتاب: التعازي والمراثي لأبي العباس محمد بن يزيد المبرد (210-286) من أوله إلى آخره. مع أن فيه من الأقوال المأثورة والأشعار المشهورة التي قيلت في التعزية وضروب الصبر والسلوان الشيء الكثير. وما والله يحزنني مرضها قبل وفاتها، لأنني أعرف أن ذلك خير ساقه الله إليها. ففي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن المريض يخرج من مرضه كما ولدته أمه. ولكن يحزنني أنني لن أراها، وأدعو الله أن يجمعني بها وبأبي في جنته. وقد يرى بعض قراء هذا الحديث انني أكرر وأعيد الكلام. وهذا الصنيع من سنن العرب، ومن أجل إظهار العناية بالأمر. وفي القرآن تكرار لا يعيب مثل قوله تعالى: فبأي آلاء ربكما تكذبان. وأنا أكرر لحرقة في الكبد على فقدان أمي. رحم الله أمي وأموات المسلمين. والشكر الخالص لكل من واسانا وعزانا بمختلف الوسائل والطرائق. والله المستعان.