لما كان الصبر حبس اللسان عن الشكوى إلى غير الله، والقلب عن التسخط والجزع، والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب وخمش الوجوه، ونحو ذلك، كان ما يقع من العبد منافياً له، ومن هذه الأمور مما ينافي الصبر الشكوى إلى المخلوق، فإذا شكا العبد ربه إلى مخلوق مثله فقد شكا من يرحمه ويلطف به ويعافيه وبيده ضره ونفعه إلى من لا يرحمه وليس بيده نفعه ولا ضره .وهذا من عدم المعرفة وضعف الإيمان .وقد رأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى آخر فاقة وضرورة فقال : " يا هذا، تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك؟ !". وإذا عرتك بلية فاصبر لها ***صبر الكريم فإنه بك أعلمُ وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ***تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحمُ بيد أن الصبر لا ينافي الشكوى إلى الله، فقد شكا يعقوب عليه السلام إلى ربه مع أنه وعد بالصبر فقال : " إِنمَّا أشكُوا بَثِي وَحُزنِي إلى اللهِّ " " يوسف : ." 86 ولا ينافي الصبر أيضًا إخبار المخلوق بحاله؛ كإخبار المريض الطبيب بحاله، وإخبار المظلوم لمن ينتصر به، إذا كان ذلك للاستعانة بإرشاده أو معاونته على زوال الضر . ومما ينافي الصبر ما يفعله أكثر الناس في زماننا عند نزول المصيبة من شق الثياب، ولطم الخدود، وخمش الوجوه، ونتف الشعر، والضرب بإحدى اليدين على الأخرى، والدعاء بالويل، ورفع الصوت عند المصيبة؛ ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن فعل ذلك . بيد أنه لا ينافي الصبر البكاء والحزن من غير صوت ولا كلام محرم، قال تعالى عن يعقوب : " وَابيَّضَت عَينَاهُ مِنَ الحُزنِ فَهُوَ كَظِيم " " يوسف : ." 84 قال قتادة : " كظيم على الحزن، فلم يقل إلا خيرًا " . ومما يقدح في الصبر إظهار المصيبة والتحدث بها .وقد قيل : " من البرِّ كتمان المصائب والأمراض والصدقة " .وقيل أيضًا : " كتمان المصائب رأس الصبر " . بيد أن الكلام عن المصيبة لمجرد أن يستشعر الإنسان وقوف إخوانه بجانبه وحاجته إليهم دون توسع فهذا لا ينافي الصبر .ومما ينافي الصبر الهلع، وهو الجزع الشديد عند ورود المصيبة والمنع عند ورود النعمة، قال تعالى : " إِنْ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إذا مَسَّهُ الشَرُ جَزُوْعاً * وَإذا مَسَّهُ الخَيَرُ مَنُوْعاً " " المعارج : ." 21 - 19 يد أن الحزن والهلع الذي يتناسب مع حجم الموقف دون إفراط ودون معصية لا ينافي الصبر . وأخيرًا .. للبحر مد وجزر، وللكلمة نفع وضر، ولكل جراح بلسم، وأفضل البلسم الصبر، فهو فضيلة المتقين، وسبيل إلى جنة النعيم، وهو في الحياة أليق بالأبي الكريم . فإذا كان لديك الصبر فأبشر بقريب الفرج، فكلما طال بالإنسان صبره، نجح أمره .أما إذا كان جوابك النفي ..فما عليك سوى ترويض النفس على ما تكره، ومعاودة الكرَّة، وبذل الجهد والمسرة .ثم اشترِ من البضائع أجودها وأشدّها حمدًا للعاقبة، قال الشاعر : يا بائع الصبر لا تشفق على الشاري ***فدرهم الصبر يساوي ألف دينار