هذه القرية الهادئة التي تقع على سفح جبل القارة، وأهلها الذين رماهم الإرهاب بقوسه، وعضّهم بنابه، يكتبون بالدماء الزكيّة للإرهاب تأريخاً جديداً في الشر، ويكشفون عن مسار مختلف في تعدّيه، وطريقة جديدة في عُدْوانه. ذهبوا وبقي الحزن في أهاليهم، والأسى في أقاربهم، غادرونا وخلّفوا وراءهم مخاوف جديدة، ترتسم أمام كل مواطن يعيش في هذا البلد الطيب، مخاوف مردّها إلى هذه الطريقة الجديدة في الإرهاب، والإستراتيجية غير المعهودة في مواجهة دولتنا، والكيد لها، ولهذا المجتمع الحبيب إلينا، بكل مذاهبه وأطيافه وتنوعاته واختلافاته. عهدنا بالإرهاب، وآخر فصوله حادثة شرورة، أنه يواجه دولتنا، ويصطدم بنظامها الأمني، ويبذل جهده في زعزعة الأمن، ونشر الخوف بين الناس، وإشعارهم أن الأمن الذي ينشدونه، وينتظرون من دولتهم القيام به، أصبح في مهب الريح، وسقط في أولى المواجهات، كان الإرهابيون في عهدهم السابق يُراهنون على قضية الأمن في زعزعة ثقة المواطن، ويرون أعظم ما يطعنون به مجتمعنا هو إظهار دولتهم عاجزة عن حفظ أمنه، ومُخفقة في صون معاش أهله. كان الإرهاب يقصد إلى إحراج الدولة، وإظهارها بمظهر الضعيف الذي لا يستطيع أن يحمي ممتلكاته، ويصون ضيوف بلاده؛ تلك كانت طريقة تفكيره، وخُطته التي بدأ في تنفيذها، فمنذ شرع في إيذائه كان نصب عينيه أن يُشكك في الدولة وجهازها الأمني أمام مواطنيها وأمام أصدقائها؛ لكنه خسر الرهان، وباء بالخذلان، وثبت لأربابه، والمتماهين معه، أن الدولة ومواطنيها يد واحدة، وأن المواطنين يقفون مع دولتهم صفاً واحداً تجاه خططه، ويُشاركونها في دفع أضراره، وتحجيم أثره؛ فهم يُدركون أنهم مستهدفون بأعماله، ومقصودون بجرائمه. تُشكّل فاجعة الدالوة، ولا أقول حادثة، مُنعطفاً جديداً في عمر الإرهاب في بلادنا، ومرحلة مختلفة من مراحله، وهي في ظني من أخطر المراحل؛ لأنها تستهدف استغلال الاختلافات المذهبية، والتنوعات الفكرية، وتتغيّا من وراء هذا إظهار أن هذه الاختلافات، وتلك التنوعات، هي التي تقف خلف هذه النوازل، وتدفع بالناس إلى القيام بمثل هذه الفواجع، يريد الإرهابيون في هذه المرحلة الجديدة من عملهم أن يدفعوا بنا إلى مثل ما يجري في العراق، ويسوقونا إلى شبه ما يحدث في سورية؛ يساعدهم في هذا، ويُعينهم على تحقيق مآربهم منا، غيابُ الإيمان بالحرية، وفشو ثقافة طائفية، وثالثة الأثافي قنوات التحريض التي وجدت لها في ما يجري بيننا رصيداً يُمدّها بالتأييد، ورأسمال يُساعدها على البقاء. نوازل الإرهاب في بلدنا مؤلمة، ووقائعه مُقِضّة مضاجع أهله؛ لكن التفكير في عقلها المدبّر لها، وأهدافه البعيدة من ورائها، ومقاصده التي يتحيّن الحصول عليها منّا، ويترقب قطْفَها على حسابنا، أشدُّ إيلاماً، وأفظعُ جرماً!؛ لأننا حين نتيقن ما يُراد من ورائها، وما يقصده أربابها ندرك أول وهلة أن هؤلاء الشهداء هم البداية فقط، وأنّ هناك من ينتظرهم قطار الإرهاب، وتَرْقُبُهم سهامه؛ لتأخذهم بعيداً عن أهليهم وذويهم وأوطانهم؛ فالإرهاب له أهداف بعيدة، ولديه إستراتيجية يبتغي منها أن يُحقق تلك الأهداف، ويقتنص تلك النجاحات، فينتصر علينا في معركة الحياة، وعلى مجتمعنا، ويُذْهب ريح دولتنا. الإرهاب ليس عملاً عشوائياً، وما كانت أحداثه يوماً خالية من القصد والترصد؛ إنه عمل منظم، يقوم على التفكير، واستغلال الفرص، واهتبال مقاتل المجتمع، والإفادة من نقاط ضعفه! وما علينا حين نريد له أن يجني ثماره، ويحصد نجاحاته، ويقتطف أهدافه، ويتغلّب علينا في المعركة؛ إلا أن نغفل عن هذه المقاتل، وننشغل بغير تلك النقاط، فتبقى فرصه في إيذائنا قائمة، وأسباب استهدافه لنا بادية!. التحوّل في إستراتيجية الإرهاب، والتبدل في طريقته، ولجوءه إلى استغلال الاختلافات المذهبية، دعاه إليهما ثلاثة أمور: الأول: أن طاقم الإرهاب، وعقوله الساهرة على تنفيذ مخططاته، وتحقيق أجنداته، ترى ما يحدث في العراق منذ سنوات، وتبصر نجاح النميمة بين أصحاب المذاهب المختلفة، وتُشاهد قيادة الوعي المذهبي للأحداث في هذا البلد الذي غرق حتى أُذنيه، وباتت نجاته مما يدور على أرضه في نظر كثيرين من غرائب الزمان، وعجائب الأوان. وثاني الأمرين، اللذين دعوا الإرهابيين إلى هذه الخطوة الجديدة: أنّهم يقرأون تلك الكتابات الكثيرة التي تتخوّف من الطائفية، وتُناشد الناس أن يكفوا عنها، ويبذلوا طاقاتهم في التبرؤ منها، ومن دعاتها؛ فلسان حالنا، وحديثنا في شكوانا، يُعدّ مدخلاً إلى إيذائنا، وباباً من أبواب التربص بنا. وثالثها: أنّ الإرهاب رجالَه ومخططيه لم يحصلوا على مرادهم منا في مرحلتهم الأولى، ولم يجنوا منها ما سوّلت لهم أنفسهم بجنيه فيها، فبدأت مشاوراتهم من جديد، وهم المصرون على النيل منا، والإضرار بنا، في البحث عن نقطة ضعف في مجتمعنا، تكفل لهم التأثير عليه، وتحقق لهم أغراضهم الخسيسة فيه، فاتجهوا إلى هذه المرحلة الجديدة، القائمة على استغلال الطائفية، والدخول إلى التدمير من خلالها؛ لعلهم أن يحظوا معها بشيء لم يستطيعوه في المرة الأولى؛ فهكذا هو دأب الأعداء، لا يجدون لأنفسهم طريقاً، ينفذون منه إلينا؛ إلا عبر عيوبنا، ونقاط ضعفنا. الأكوان الإرهابية ليست أحداثاً عارضة، ونوازل طبيعية، تصيب هذا المجتمع أو ذاك، وينظر إليها الناس على أنها قدر وقضاء؛ بل هي أحداث مخطط لها، ووقائع خلفها من يرسم لها، ويحرك بيادقها على رقعته!. وإذا كان الإنسان ينظر للأقدار التي تصيبه نظرة من لا يتهم الطبيعة، وينقم من فعلها معه، ويعزو إليها قصده بالأذية، والتربص به؛ فإن الإرهاب وحوادثه في عين الإنسان ونظر المجتمع وبصيرة الدولة تُعد انتقاماً من الإنسان، وتربصاً بمجتمعه، وحرصاً على الإضرار بدولته. والفارق بين الحوادث العارضة والوقائع المقصودة والمبيّتة هو الذي يدفع الدول إلى الحرص الشديد على تحديد نوع هذه الحوادث أولاً، والتأكد منها؛ لأن تحديد نوعها، وتعيين صورتها؛ سيعقبه رسم طريقة التعامل معها، وسيخلفه تحديد أسلوب المواجهة لها. ومن نافلة النظر أن يقال: إن الإنسان الفرد يقوم تفكيره في الحوادث، النازلة به، والواقعة عليه، وفق هذا المنطق نفسه؛ فإن بدت له الأحداث عارضة هانت عليه، وصغُرت في نفسه، وإن كانت الأخرى، وأقصد بهذا أن الوقائع ظهرت أمامه مرسومة، ومخططاً لها، صعُبت عليها، وأقلقت ضميره، وأشغلت ذهنه في مواجهتها! وبقي منتظراً في مستقبله حدوثها، ومُتخوّفاً من دفع أثمان لا يستحقها منه أصحابها. طريقة التفكير في الحوادث والوقائع عند دولة ذات نظام ومؤسسات، هدفها خدمة المجتمع ووقاية مصالحه، وطريقة التفكير فيها لدى الأفراد، متشابهة في بدايتها، ومتحدة في مراحلها الأولى؛ لكنها مختلفة أيّما اختلاف في النهايات، وتحديد المصير الذي سينتهي إليه الحال، وتدفع نحوه التدابير؛ فالدولة تملك، بطاقاتها وخبراتها ومؤسساتها ورجالها، ما يحسم مادة هذه الفواجع، ويُشارك بفاعلية في سدّ الفجوات التي يدبّ منها الأعداء، ويختلون من خلالها المجتمع. ما جرى في قرية الدالوة، وما أسفرت عنه فاجعتها من تغيير الإرهاب تكتيكه في مصادمة مجتمعنا؛ يضطرني هنا إلى وضع رسالتين؛ الأولى متجهة إلى الأفراد، والثانية متجهة إلى السلفية التقليدية؛ لأنها قاعدة وعي الأكثرية في مجتمعنا، ومُهندسة العقل في بلادنا، والاهتمام بالعوامل ذات الأثر الأكبر مقدم على غيرها في ظل مواجهة دولتنا ومجتمعنا للإرهاب، ودفع آثاره عنا. في رسالتي للأفراد أقول: كل مواطن يُصنّف الآخرين، وهدفه التشكيك في ولائهم، والطعن في أهدافهم، والارتياب من مقاصدهم؛ فهو ثغرة يلج منها الإرهاب إلينا، ويستغلها في الإغارة علينا، وما لم نعِ بهذا، ونقف معاً في وجهه؛ فلا نتباكى حين يجري توسيع هذا الاستهداف للمختلفين، وتتابع عربات قطار الشهداء بين أيدينا. وفي رسالتي للسلفية التقليدية أقول: إن السلفية في واقعها الذي نعيشه هذه الأيام، وليس حسب نظريتها الأساسية، منظومة غير قادرة على لمّ الشمل، وتكوين الدولة، وصيانة المجتمع، تلك شهادة صعبة؛ لكنها عندي ضرورية في هذه الآونة!. السلفية في بلادنا تقف وراء التصنيفات الدينية التي يُراد منها السخرية بالمخالف والاستهزاء به والاحتقار لفهمه وتحديد نهايته الأخروية ( كلها في النار إلا واحدة) وتُغذي المنتمين لها بهذه المفاهيم، وتجعل هذا شرط العقد الاجتماعي مع الناس؛ فقبل أي شيء عليك أن تُراجع فهمك للدين، وتصورك له؛ إن أردت أن يكون لنا معك عقد، وبيننا وبينك ميثاق، هذه هي السلفية التقليدية، وهذا هو سبب وصفي لها قائلاً: إنها عندي غير قادرة حالياً على دفع عجلة الاندماج الاجتماعي بين كافة شرائح مجتمعنا، وتُعد عائقاً أمام أي جهد تبذله الدولة في هذا السبيل، وما لم تكن السلفية عندنا عوناً للدولة في مشروعها الانفتاح؛ فسيظل هذا التناوش بين الناس قائما، وسيبقى الرصيد الذي يتكئ عليه محاربو الاندماج، ووسيلته الانفتاح، حاضراً بين أيديهم، جاهزاً لتأييدهم، وسيبقى الإرهاب وشياطينه قادرين على استغلال هذه الهوة التي تخلقها السلفية التقليدية، ومتمكنين من ضربنا عبر نافذتها. وأخيرا؛ فعلى من يجعل مذهبه، من أي طائفة كان، الشرط الأساسي في العقد الاجتماعي بين المواطنين، فيُحوّل الوطن إلى مذهب، والمذهب إلى وطن، أن يتوقع استغلال هذا الخلل البنيوي من قبل أعدائه، وعليه أن يكون مستعداً لدفع ضريبته! وكل عام ووطننا وأهله بخير وعافية، وأمن وأمان، وأستودع شهداء الدالوة الله الذي لا تضيع ودائعه، مستذكراً في هذه الفاجعة قول متمم في رثاء أخيه: فلو أنّ ما ألقى يُصيب مُتالعاً أو الركنَ من سلمى إذاً لتَضَعْضعا