يعمل الدكتور إبراهيم بن سليمان المطرودي أستاذاً للغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ويكتب مقالة منتظمة في صحيفة الرياض، وتتمحور مقالاته في قضايا الفكر الإسلامي والمواضيع الفقهية والدينية، وتثير كتاباته المتعلقة بالأحاديث والمرويات النبوية الشريفة كثيراً من الجدل في أوساط المنتمين إلى العلوم الشرعية. يقول بأنه ضد «مَنْهجة» الدين وتحويله إلى مدارس، معللاً ذلك بأن تحول ممارسة الفهم ومعاناة التعقل إلى مدرسة ومنهج تنهي هذه الممارسة، وذاك التعقل في الإنسان، وتحيل تفكيره إلى عمل آلي شكلي! كانت تلك مقدمة لحوار أجرته "الحياة" مع الدكتور ابراهيم المطرودي والذي أجاب فيه عن أسئلة عدة تتعلق بمستقبل التيارات الإسلامية والصحوة والمرأة والطائفية والديموقراطية، وقضايا أخرى. نص الحوار: أنت متخصص في النحو والصرف وفقه اللغة، فما الذي جاء بك إلى مناقشة قضايا الفقه والحديث.. ألم يقُل الأقدمون بأن «من تكلم في غير فنّه أتى بالعجائب»؟ - جاء بي إلى هذه القضايا العناية بها والاهتمام بدرسها، فهي قضايا تمسّ حياتي أولاً وفهمي للدين ثانياً، والدين في أساسه رسالة خاصة، إذ مطلوب من الإنسان ابتداءً أن يبحث عن الدين الحق، ومطلوب منه أن يفهم جزئيات هذا الدين أيضاً، ولست ممن يميل إلى الاتكاء على غيره في فهم مثل هذه القضايا لأن لها أثراً ثقافياً واجتماعياً مدمراً، مثل قضية المهدي والمرأة في النصوص الدينية. وأما العجائب المستغربة التي يأتي به غير المتخصص، فعلى ذوي الفن أن يفضحوه فيها، ويُعلنوا عن عجائبه تلك، فهذا حقهم، ولا نكير عليهم فيه، لكن هذا لا يلغي حق الإنسان في إبداء الرأي وطرح القول. جامعة الإمام تقلقني ---------------------- ترتبط وظيفياً بجامعة الإمام محمد بن سعود التي تعتبر الحاضن التعليمي الرئيس للمدرسة السلفية، وأنت الآن تمارس من خلال مقالاتك نقداً حاداً لأدبيات تلك المدرسة .. ألا يؤثر هذا الأمر فيك؟ ويعرضك للمضايقة في بيئة العمل؟ - بلى يؤثر فيّ ويقض مضجعي ويُقلق نفسي كثيراً، لكني لم أختر هذا الطريق وأنا أجهل عواقبه وتغيب عني نهايته، فبين يدي نماذج كثيرة قديمة وحديثة. ومن الغفلة أن أظن لحظة واحدة أنني سأنتهي إلى غير ما انتهوا إليه، لكني أقف بين أمرين، أن أصمت وأعيش قلق الضمير، منزعج الوجدان، أو أُفصح عمّا نفسي وأُريح ضميري، وأشقى بالناس قريبين وبعيدين، وأتحمل جريرة جرأة لساني. وقد آثرت الثاني بعد تفكير غير قصير، وأمري بيد الله تعالى وهو الذي أمرني أن أكون شاهداً على المسلمين قبل غيرهم (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) لكنها شهادة بحسب إمكاناتي، ولم يُكلفني غير ذلك! كيف وجدت ردود الفعل على كتاباتك إن على المستوى الشعبي أو النخبوي؟ وهل سببت لك هذه الكتابات وخصوصاً المتعلقة بمراجعة «الأحاديث والمرويات النبوية الشريفة» أي نوع من المتاعب؟ - النخبة نوعان، نخبة تنحو إلى مثل رأيي، وهي قليلة جداً، وكثير منها لا يستطيع إشهار رأيه، لكنها تُخفف من ضغط النخبة التي تُحارب طريقي وتحُد من أثر الجماهير التي تريدك مثلها وإلا...! ثمة متاعب كثيرة، فمن السخرية بي وبعقلي الذي جعلني أقف مصادماً للأئمة الأعلام إلى ترهيبي بما تنجلي عنه أحداث الثورات، وما تبيضه دجاجاتها، لكني اخترت راحة الضمير التي لا يعدلها عندي شيء، وهي التي أحسبني سآسف كثيراً لو سرت في غير طريقها. تنتمي درساً وتعليماً إلى المدرسة السلفية التقليدية. ما الذي يربطك الآن بتلك المدرسة فكراً ومنهجاً علمياً ورؤية دينية؟ - يربطني بها وبغيرها من مدارس المسلمين الوجهة الواحدة نحو النص القرآني، لكني ضد مدرسة الدين وتحويله إلى مناهج مهما سُمّيت هذه المناهج، لأن تحول ممارسة الفهم ومعاناة التعقل إلى مدرسة ومنهج تنهي هذه الممارسة، وذاك التعقل في الإنسان وتحيل تفكيره إلى عمل آلي شكلي، وتضحي بهذا التحول دعوةُ القرآن الكريم للتفكر غير ذات جدوى، لأن التفكر حينها - إن وُجد - معروف النهاية، محسوم النتيجة. نحن لم نرث عن الصحابة مناهج، ولم نتلق عنهم أطراً نظرية، وإنما ورثنا أقوالاً، ووصلت إلينا ممارسات يسعى أصحابها لفهم النص والتأمل فيه. النص كان معيارها - وبخاصة القرآن الكريم - والسعي في تأطير تلك الأقوال والممارسات بمنهج وإطار حوّلها - وتحويلها اجتهاد يخطئ فيه صاحبه ويصيب - إلى قواعد جامدة ليس من همها أن تنتج المعنى. فالمعنى معروف، لأنها مستخلصة من تراكمه، وإنما غاية ما تسعى إليه وتفكر فيه بعد هذا الإنسان عنها وقُربه منها! فجنى ذلك على أعلى قيمة في الإنسان وهو التفكر المطلق والتأمل المفتوح اللذان هما شرطا الإنجاز الفكري وبوابة التقدم الحضاري. الجمهور المسلم أضحى ملزماً قبلياً أن يتفق مع ما استقر من منهج عند جماعته حين يفكر وينظر ويتأمل، وهكذا تغلّبت المدارس ومناهجها على المسلم عقله وفطرة التفكر فيه. صحيح أن في الإنسان جبلة أن يمدرس الوقائع ويمنهج الممارسات، لكني أميل إلى أن هذا يُمكن أن يُقبل مع كل شيء إلا الأديان، وبخاصة الدين الخاتم. بدأت الكتابة من خلال صفحة القراء في صحيفة الرياض، ثم ما لبثت أن أصبحت كاتباً رسمياً في الصحيفة نفسها. ما الذي دفعك للكتابة الصحفية ابتداء؟ وما ظروف انتقالك من صفحة القراء إلى قائمة كتاب الصحيفة المنتظمين؟ - دفعني تحويل الفكرة إلى كلمة الشعور المتنامي بأنّ تحول الدين إلى مدارس واتجاهات هو الذي يقف حائلاً دون تلمس الناس لصورته السمحة، وهو الذي يضع العراقيل أمام كل مسلم يريد أن يسترشد بعقله، ويعود إلى أصله الإنساني في التفكر والتأمل، واتجهت للصحافة لأنها المركب الخفيف والسريع لإيصال مثل هذه الرسائل ودمجها في الثقافة العامة. الخطاب الديني --------------- ثمة من يقول بأن الاحتفاء الذي قُوبلت به في الصحافة لا يعود إلى تميز في كتاباتك بقدر ما يرجع إلى جرأتك في نقد الخطاب الديني والمدرسة السلفية، بخاصة أنك من المحسوبين على تلك المدرسة. ما تعليقك؟ - أنا أميل إلى الفصل بين فعل الإنسان وقوله والدين، وهذا يجعلني أنظر إلى نقدي بمنظار آخر، وهو أنني أنتقد المتدين وفهمه للدين، وفرق كبير بين الأمرين، بل أذهب إلى أن استعمال مثل هذه المصطلحات (نقد الخطاب الديني) هي نتيجة المطابقة بين فعل الإنسان والدين نفسه، وهذا ما يجعل أي نقد لهذا الخطاب يُوصف - كما في سؤالك - بالجرأة، لأنّ الناس إذا حضر في أذهانهم أن هذا الخطاب نتاج الإنسان لم يجعلوا نقد بعضه جرأة، ولم تكن إعادة النظر فيه عندهم مسترابة. والخلاصة أنها جرأة في نقد خطاب المتدين نفسه، وليست جرأة في نقد الخطاب الديني، وأما تفسير بعضهم لاحتفاء الصحيفة بي فليس شيئاً يهمني أو أعتني به، لأنني أعلم - وهؤلاء القائلون يعلمون قبلي - أن الاحتفاء مُوثق بما يُقدّمه الكاتب للجهة التي يكتب فيها. وهم لو كانوا كتاباً في أي منبر إعلامي لن تُفتح لهم أولاً أبوابه ما لم يُقدموا ما يخدم هذا المنبر، ويساعد في تحقيق أهدافه، ولست أخفي أن أهدافي التي أسعى إليها تلتقي مع أهداف الصحيفة، بل أحمد الصحيفة على ذلك، لأنها عندي نصرة للدين ودفاع عنه! تركز في مقالاتك على النبش وطرح الأسئلة في التراث الديني، وتطالب بإخضاع هذا التراث لأدوات منهجية مغايرة وتدعو إلى ما تسميه ب«القراءة المتنيّة» للمرويات والأحاديث النبوية. ألا يمكن اعتبار هذا المنهج دعوة لإحياء منهج المدارس الكلامية القديمة؟ وهل يمكن وفق رؤى المدرسة السلفية تبنّي وأخذ الاتجاه العقلي في تفسير وقراءة الأحاديث الشريفة؟ - أنا من دعاة العودة إلى الأصل الإنساني وهو التفكير المفتوح، والتأمل غير المشروط، وهو ما يُمكن تسميته بالتفكير ما قبل مرحلة مَدْرسة الفهم، ومنهجة الوعي، وهذا ما يجعلني أنظر إلى تراث المسلمين من خلال تعبيره عن هذا الأصل. ولست أهتم كثيراً بتصنيف مدارس المسلمين، لأن التصنيف كان غرضه الأول محاربة الآخرين لمخالفتهم في بعض قضايا التفكير ومسائل النظر، وهي أمور يحلها التفكير الأصلي، والحوار بين الناس، واللجوء في حلها إلى الشطب والإبعاد من أي جماعة كانت هو نصرة للمدرسة، وليس انحيازاً إلى المعرفة والتفكير، لأن للدفاع عن الأفكار طريق غير الشطب والإلغاء، والشتم بالدين وغيره، وهكذا فليس اهتمامي بالنبش لنفسه. وإنما غرضي منه أن أضع بين يدي القارئ شواهد تؤكد له أن الأصل هو التفكير المفتوح، والنظر العقلي الواسع، وليست تلك المدارس، وأولئك العلماء، مهما بلغ احترامهم في نفوسنا، وتقديرهم في أجيالنا، ولن نصنع في ظني شيئاً ما دمنا لا نفرق بين العقل كممارسة قديمة، والعقل كأفق مفتوح. وفي سؤالك الأول ذكرت السلفية التقليدية (سلفية التمدرس)، فإن كنت تقصدها هنا أيضاً، فلا أظنها تسمح بالعودة إلى ممارسة التفكير من غير حدود، وإن كنت تقصد بها سلفية ممارسة التفكير، وهي السلفية في طبعتها الأولى. السلفية قبل مَدرسة فهم المسلمين، فمنها تعلمت هذه الطريقة في التفكير، ولك في الفاروق رضي الله عنه خير برهان، وفي مدرسة الرأي الإسلامية الشهيرة خير شاهد، وهذا ما يجعلني أميل إلى أن من الخير أن تكون المدارس المسلمة منفتحة منهجاً وممارسة، لكن هذا الخير لم يُكتب له في التاريخ الذيوع والانتشار، فحُكم تاريخ الوعي المسلم بالتنابز حول المُنْتَج ولم يُحكم بالإنتاج، والتدافع في ميدانه، وأمسكنا بثمار التفكير، وتركنا التفكير نفسه. الشيخ الفوزان والتفكير ------------------------- الشيخ صالح الفوزان كتب تعليقاً على إحدى مقالاتك، وأبدى فيه استغرابه من صدور «هذه المقالات» ممن هو مثلك، وممن هو بمثل منصبك بحسب تعبيره. في رأيك ما مبعث هذا الاستغراب وما دواعيه ؟ - أنا من بيئة الشيخ وهي بيئة معظم علمائنا ومشايخنا، ودرست في المعاهد العلمية، لكن المستغرب مني هو أني أدعو إلى التفكير في النص من خارج المدرسة، ومن خارج ممارسات علماء المدرسة الأولين، بل أرى هذا النهج هو الضمان الأول لوحدة الوعي المسلم قبل وحدتهم السياسية المنتظرة. وتفسيري لموقف الشيخ وغيره أيضاً أنني أدعو إلى النظر في النص بعيداً من المدرسة التي أنتمي إليها، وبعيداً من العلماء الذين ورثت أقوالهم، وهذا يُعدّ خروجاً كبيراً على نظام الوعي القائم، لأن هذا النظام يعتمد أساسين، الأول الإطار المدرسي. والثاني الممارسات المتسقة مع هذا الإطار، وحين يدعو مسلم إلى هذه الطريقة غير المتسقة مع هذين الأمرين، فهو يدعو إلى البدء بتغيير جذري يتلخص في تمكين المسلم من التفكير من جديد بعيداً من تناول الأسلاف ومدرستهم للرأي. اسمح لي أن أقول إنني أرى في مدرسة وقائع الفهم تدشينا لمرحلة التقليد، فالتقليد عندي لا يجد له ناصراً أشد من مَنْهجة الوعي ومَدرسته. بعد أحداث ال11 من (أيلول) سبتمبر تزايدت حدة النقد الموجهة إلى الخطاب الديني المحلي من بعض المنتمين إلى هذا الخطاب. ما تفسيرك لهذا الأمر؟ وفي رأيك ما حدود الإصلاح الذي يحتاجه هذا الخطاب؟ - قبل أحداث سبتمبر كان الخطاب المسلم يرى في التنوع الموجود من الجهاديين إلى الحركيين النشطين في الدعوة جبهة واحدة، لكن هذه الأحداث فتحت العيون على أن بعض الجماعات يُمكن أن تقوم بأمور غير محسوبة، فيدفع ثمنها الإسلام قبل المسلمين، وتُحسب جريرتها على تلك الجماعات. وهذا قاد إلى الإيمان بفكرة أن التجمهر من دون أطر واضحة يضر ولا ينفع، فانقسمت تلك الجماعات على نفسها، فأصبحت بيئة النقد مع التفكك أكثر جرأة وأعظم حدة، وهذا ما يجعل لهذه الأحداث فضلاً على الخطاب نفسه، وهو الذي يحسن بنا أن نتنبه له، ولا يكون تركيزنا على ما أحدثته الأحداث في أميركا وغيرها، فلربما كان ذلك كله وراء تفكك جماعات ذلك الخطاب، ودخولها في طور جديد هو نقد النفس قبل نقد الآخرين، سيراً على قوله تعالى: (قل هو من عند أنفسكم) وقوله: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). إذاً تفكك الخطاب بعد ظهور من ينتسب إليه، والقيام بأعمال يتحمل مسؤولتها الخطاب كله فاقم حدة النقد، وانتقلنا من مرحلة محاربة نقد هذا الخطاب تحت ترديد لازمة «سلِم منك أعداء الملة...» إلى مرحلة جديدة شعارها «ابدأ بنقد الأمة أولا». وأما الإصلاح فليس له حدود لأنه عمل دائب، لكن يُمكنني أن أوجزه في ناحيتين، الأولى تتعلق بالمنهج نفسه، فيُفتح للمسلمين المعاصرين إصلاح مناهج مدارسهم في فهم النصوص الدينية، ولا يتعلّق المسلم منهجيا بأحد. والثانية أن يجري تغيير جذري لعلاقة المسلم بغيره من إخوانه أو من أهل المعمورة، وتتخذ المقالة الشهيرة في وعي المسلمين نقطة بدء ومراجعة، تلك المقالة التي تقول: «إن حقوق الله تعالى مبناها على المسامحة، بينما حقوق الناس مبنية على المشاحة! الوزارة بين الحيرة والانفتاح ------------------------------- كيف تنظر إلى دور وزارة الشؤون الإسلامية في إصلاح الخطاب الديني المحلي، وهل تعتقد أن الوزارة تملك رؤية تمضي في إصلاح هذا الخطاب، أم أنها لا تتجاوز إعادة إنتاج الخطاب السائد؟ - وزارة الشؤون الإسلامية في ظني يتنازعها أمران، الأول أن تمضي قدماً في ثقافة الانفتاح التي بدأت الدولة خطواتها الجادة في طريقها، فتُعيد النظر في كثير من قضايا الخطاب، فتحدّ مثلاً من خروج خطب الجمعة عن ثقافة الانفتاح، وأقصد أن يكون الانفتاح عملاً يظهر بوضوح في الخطابة،. والثاني أن تعيش حيرة بين تلبية متطلبات خطاب الانفتاح ومتطلبات الخطاب القديم، فيخف دورها في الإصلاح، ونظل نكرر أخطاء قديمة مثل تعليم بعض مسائل الدين لمن ليس مسؤولاً عنها أو عن القيام بها، كتعليم الجهاد لعامة الناس. ونحن نقرر أن الجهاد وأمره منوط بولاة الأمر من الساسة والعلماء، وهذا نموذج من نماذج الاضطراب بين الرؤية المنهجية والممارسة، ويعود كثير من هذا الاضطراب إلى حيرة الإنسان والمؤسسة في السبيل الذي عليها أن تسير فيه وتنهد نحوه. - الحديث عن مرحلة ما سمي ب«الصحوة» في السعودية يثير التساؤلات حول التقويم الموضوعي لتلك المرحلة. كيف تقوّم تلك المرحلة؟ وهل تعتقد أن كلمة «الصحوة» هي الأنسب لوصفها لجهة التأثير الذي أحدثته في الوعي الديني المحلي؟ - ما يُسمّى بالصحوة كان يسير على خُطى السياق المهيمن حينذاك، وهو أن المسلم في نظرها ذاكرة فقط، تحوي كماً هائلاً من المعلومات والمعارف التي لا يحتاج في حياته الكثير منها. وهذا ما جعل نتيجة الصحوة في توسيع مدارك المسلم العقلية تقترب من الصفر، والذي جد معها فقط هو ظهور أشخاص يمثلون الخطاب القديم نفسه، لكنهم شباب فقط، يرون في أنفسهم تأهيلاً أن ينقدوا رجالات الخطاب الأولين، ويستجلبوا الجمهور بهذا، وبالحديث عن السياسية ونقدها. انصب اهتمام الصحوة على الإنسان الذاكرة وليس العقل، فظل المسلم معها يفتقد أهم بُعديه، ومن الظواهر الدالة على هذا أنها لم تستطع أن تنفتح على المخالف لها، وظلت تُلوّح بسلاح التصنيف لكل من يُعارض رجالها أو ينتقد توجهاتها، فكان حُمادى ما قامت به هو تغيير يسير في أحجار الشطرنج فقط! ولست أعلم من دشّن هذا المصطلح «الصحوة»، لكني أميل إلى أن أوجه الاختلاف بين الخطاب القديم والجديد هي التي تُحدد للإنسان المصطلح الأليق به، وحين أنظر في مجمل خطاب ما سُمي بالصحوة لا أجد فيه ما يسمح بإطلاق هذا الاسم عليه، لأن المدرسة التي تحكم هذا الخطاب هي نفسها التي تحكم الخطاب القديم. مستقبل السعوديين -------------------- في ظل التحولات التي يعيشها مجتمعنا على المستوى الاجتماعي بفعل التقنية الاتصالية والتدفق المعلوماتي، والظروف السياسية الخارجية وتنامي ثقافة الحقوق بعد أحداث ما يسمى بالربيع العربي، كيف تقرأ مستقبل المملكة؟ وفي رأيك ما الذي يمكن أن تفعله مراكز القرار للعبور الآمن تجاه مستقبل واعد؟ - قبل أن تبدأ الثورات العربية ودولتنا تدعو للحوار، وتتبنى الانفتاح في الداخل والخارج، وأحسب صناع القرار كانوا يدركون أن تفعيل دور المواطن في صناعة التقدم وبناء الدولة لا يُمكن أن يمر في ثقافة تختار وفق التصورات المذهبية الضيقة. ويجنح به هنا وهناك قول شخص في مسألة فقهية عارضة، فمثل هذا الجمهور الذي يرفعك إلى أعلى عليين لقولك في مسألة فقهية عارضة، أو يحط بك إلى أسفل سافلين لأنك انتميت لمذهب آخر، يفتقد شرطاً أساسياً في قيامه ببناء الدولة، وتحمل مسؤوليته تجاه مجتمعه، الذي يضم اختلافات كثيرة. إذاً التغيير كان اختياراً داخلياً قادت إليه الظروف التي مر بها المجتمع قبل أحداث الدول العربية، لكن الشعب الذي قال له خادم الحرمين: «إنني خادمكم» ينتظر تفعيلاً أكثر وأكثر لدوره في بناء الدولة. ويستعجل ذلك قبل أن تقوم دولته بتهيئته لذلك، لكن إن كنا نُصدق بأن المسؤولية تُولّد الاهتمام، ونقبل بهذه القضية، فلست أرى طريقاً للعبور بالدولة والمجتمع خيراً من الإسراع بتدابير تمكين المواطن من مسؤوليته تجاه وطنه وأهله، وتوسيع دائرة الانتخابات التي بدأت بها الدولة في البلديات، فربما كان حل كثير من أخطاء الشعب مرهوناً بتحميله المسؤولية ومواجهة الواقع. كشفت الصراعات في الوطن العربي بدءاً بالحال العراقية، المخبوء في المسألة الطائفية، وانزاح المشهد العربي عن انتماءات طائفية ومذهبية ضيقة، وفي المقابل تراجعت أو خفتت الدعوات المنادية للتقارب والتعايش المذهبي. ما الدور التاريخي الذي يتحمله الفقيه في هذا الموضوع؟ وما الدور المستقبلي الذي يمكن أن ينهض به تجاه فكرة التقارب بين الطائفتين السنية والشيعية؟ - هذه المسألة الخطرة صنعها في القديم الفقيه، واستفاد منها السياسي في مراحل التاريخ المختلفة، ولن يكون حلها الجذري إلا في يد من اخترعها أولاً، لكني أرى السياسي اليوم في دولتنا ودول الخليج يحاول حلّ هذه الورطة التي دشّنها الفقيه، لكن لن يكون أثر السياسي فيها كبيراً ما لم يقف الفقيه معه على الخط نفسه. واسمح لي أن أقول إنّنا ما لم نوجه النقد للفقيه ونُرحب به كما نوجه النقد للسياسي ونرحب به، فلن نصنع شيئاً، إذ ما زال الشرط الثاني لتغيير حالنا غائباً، فتاريخنا يحكمه رجلان، لكن ما زالت ثقافتنا تُحمّل أحدهما أوزار كل شيء، وتجعل البراءة كل البراءة للآخر. ومن عجب أن بيئة الفقهاء تتحارب على الرأي الفقهي وليس العقدي، لكنها حين تقف في وجه السياسي تكون صفاً واحداً، فلا ترى لسهامها هدفاً سوى السياسي، وتغفل الجماهير الماضية وراء كل جماعة من الفقهاء عن دور أصحابها، ويرون البلاء كل البلاء في غيرهم، وبمثل هذا تنظر بيئة الفقهاء جملة إلى السياسي، فهي بريئة من تحمل تبعات حال الأمة، وعلى السياسي أن يدفع ثمن كل شيء! ضيعوا المرأة --------------- تحتل المرأة موقع الصدارة في الخطاب الإسلامي الحديث فقهاً وإرشاداً وفكراً، وتتمحور حولها معظم اهتمامات هذا الخطاب. إلى أي مدى خدم هذا الخطاب واقع المرأة وحقوقها؟ وما مدى تقاطع أطروحات هذا الخطاب مع الموروث الثقافي؟ - من الظلم لنفسي أن أقيّم خطاباً كهذا، لكني أودّ أن أدع خطاب النخبة التي تدافع عن المرأة، وتسعى أن تنال المرأة حقوقها، وأتجه بالحديث عن ثقافة الجمهور التي يدعمها الفقه القديم، وتجد فيه خير مؤيد لإبقاء المرأة حيث هي. هذه الثقافة لم تصنع للمرأة إلا مثل ما يصنع السياسي الذي يُعلن شعارات ليس لها واقع في الحياة، إذ تجد فقهاء هذه الثقافة - وهم أصحاب الصوت الطاغي - يرفعون ليلاً ونهاراً شعار «الإسلام كرّم المرأة»، لكنهم يُشرعون به احتقار المرأة والحط من قدرها، فيظهر الإسلام - هذا الدين العظيم - كأنما يقول للمرأة: «هذا حدك.. واسكتي.. أنت ناقصة عقل ودين. هذا ما أستطيع أن أجده لك من تكريم»! وأذنْ لي أن أقول إن الموقف من المرأة سيكون أحد أهم أسس التغيير المفاهيمي لتصورات الناس للدين، فالدين جاء رفعاً للظلم ودرءاً له، ولا أظن أحداً حظي بالظلم في تاريخ أفهام الناس للأديان مثل المرأة. ولعل في تولي الرجل وحده صناعة المعنى الديني ما يُفسر جزءاً من هذا المعضل التاريخي، وباختصار أنا أدّعي أن ما في الأديان من احتقار للمرأة كان الرجل يقف وراءه! - الديموقراطية أصبحت مفردة حاضرة في الخطاب السياسي العربي ومن جميع التيارات سواء الليبرالية أو الإسلامية، الحاكمة أو المعارضة، كيف ترى توافر شروط واستحقاقات هذا المفهوم في الدول العربية؟ - الديموقراطية من شروطها تمييع أي انتماءات لغير الوطن وأهله، لا بدّ من أن يكون المسلم في منشطه ومكرهه للوطن وأهله، ولست أحسب الجماهير المسلمة قادرة على استيعاب هذه القضية الآن. فهيا بنا نُخفف من غلواء المذهبيات التي جعلت الناس يؤثرون التقاتل على التعايش، قبل أن نفكر في توطين الديموقراطية التي تطلب منك المشاركة في بناء الوطن أولاً قبل أن تطلب منك تصحيح مذاهب الناس وعقائدهم. المسلمون اليوم لا يرون الدين شيئاً ذا بال، ومن ثم فهم أزهد ما يكونون في آليات تنظيمها. يهمهم أن يصححوا عقائد الناس ومذاهبهم، ولديهم استعداد كامل للتنازل عن كل حق سوى هذا الحق. توطين الديموقراطية يحتاج مسلمين يؤمنون بالحياة وقيمتها أولاً.