"نسخة إلى السيد: محمد المكي في مكةالمكرمة. إلى السيد: تشينوا يوري في نيجيريا. إلى السيد: بسكوڤ بوزوڤ في سانت بطرسبرغ. إلى السيدة: إيميلي ميغيل في باريس. إلى السيدة: آن غورنفيلد في سيدني. إلى الطفلة: إيزابيلا تمبل في ولاية نيفادا الأمريكية، وآخرون". تحية طيبة وبعد: لعلكم عرفتموني الآن. أنا بخير وأتمنى أن تصلكم رسالتي هذه وأنتم بصحة جيدة وخير من الله كثير. مذ كنت طفلاً أردت أن أتواجد في أكثر من مكان في وقت واحد. قالت لي جدتي أنني في قلب أمي، وأمي في السماء. وبهذا أنا في الأرض والسماء في آن معا، وفي قلب أبي أيضا في بيته عند زوجته الثانية شتان بين هذين القلبين والمكانين. لم أصدق ذلك لكنني كنت ممتناً جداً لهذه الفكرة التي كانت بمثابة مسكن لأوجاع أمنيتي المستحيلة. وصلت الجامعة، درست الطب على أمل أن أجد فيه ثغرة تمكنني من فصل جسدي إلى أجزاء وإرسالها لتجول العالم بينما رأسي ينتظر عودتها هنا فوق كتفي، أقلقتني هذه الرغبة كثيرا لاستحالتها وتلذذت بجنوني. حين وجدت نفسي محاطاً بالدماء وأعضاء الجسد التالفة والمكشوفة شعرت بالعار لأن خطأ واحدا كنسيان قطعة شاش صغيرة في جسد المريض قد تقتله في ظرف يومين. وأنا تساءلت بيني وبين ضميري: ماذا كانت نيتي حين اخترت هذا التخصص الدقيق! لن أغفر لي. ولأن الدماء مقدسة لا يجوز ليدي الملوثة أن تلطخها بأمنية ساذجة مستحيلة ونية باطلة. اخترت عملا مكتبيا. بكيت كثيرا إلى حد الاكتئاب الشديد حين جدولت قائمة الانتظار حسب تدهور الحالة الصحية تقارير لأناس طريحي الفراش ينتظرون دورهم في زرع الأعضاء. أظن أنكم قد تتساءلون متى طرأت هذه الفكرة على بالي وهل خططت لها؟ في الواقع تخلصت بالاستعانة بطبيب نفسي من إلحاح تلك الأمنية ومن الشعور بالعار وكرست نفسي لخدمة المرضى بما أستطيع. ذات يوم، أظنه كان الأحد لا أذكر في أي ساعة من الصباح فقدت الوعي فجأة ولم أستيقظ إلا في اليوم التالي على حوقلة وبسملة جدتي العجوز فوق رأسي. تقرأ القرآن تارة وتارة تطلب من الله أن لا أكون مثل إحداهن لم أعرف من تكون أول الأمر، كانت تشير إليها بضمير الغائب. أخبرتني بعد إلحاح مني أنها أمي وأنني ورثت عنها مرضها الغريب في الدماغ والذي تتوارثه عائلتها جيلا بعد جيل. سأموت مثلها في التاسع والعشرين من عمري وجسدي إذ فقدت الوعي أراد أن يخبرني أنه قام باستضافة هذا المرض دون أن يطلبني الإذن. وأمامي أشهر قليلة قبل أن أموت دماغيا. لن أكذب عليكم؛ بعد محاولات طويلة ويائسة لعلاجي تذكرتكم، أنت أول من قفز إلى ذاكرتي يا محمد بمعاناتك مع غسيل الكلى. اكتفيت بك من بلدي وشرعت أبحث عن مستحقين آخرين حول العالم، أنتم والعشرات غيركم، لكنكم كنتم أكثر يأسا منهم واستجبتم لدعوتي فأصدقتكم القول والوعد، وهبتكم أعضائي كلها. أكتب لكم هذا الكلام قبل أوانه، فإذا آن أوانه لست أطلبكم به الشكر والعرفان، بل لأشكركم يا حراس اﻷمنيات، أنا ممتن جداً لكم لأنكم الآن إذ تقرؤون هذه الرسالة ثمة نقاط حمراء على الخريطة في أماكن مختلفة حول العالم، أنا متواجد فيها كلها في نفس الوقت.. داخلكم.