ذكرنا في الجزء الأول من هذا المقال أربعاً من أهم السلبيات التي تعتور الخطاب التقليدي لدينا، وتحديداً فيما يخص المرأة (وهي اختصاراً: 1- شرعنة اضطهاد المرأة بممارسة الانتقاء من النصوص والتأويلات الدينية. 2- دور العادات والتقاليد في قيادة عملية شَرْعنة الاضطهاد على المستويين: الواعي واللاواعي. 3- إيهام المرأة أنها حققت ذاتها، وذلك عن طريق تبخيس المنجز العالمي من جهة، وتعزيز النادر المحلي من جهة أخرى. 4- تسجيل اعترافات نسوية، من باب الشهادة على الذات، تنفي واقع الاضطهاد). وفي هذا الجزء نكمل ما بقي منها في حدود ما يسمح به المجال المتاح. 5 يقوم هذا الخطاب التقليدي بالترويج للمتغيّر الشكلي، سواء ذلك المتغير الذي باركه عن قناعة، أو ذاك الذي فرض نفسه بقوة واقع الحال، وهو يتجاوز – في الوقت نفسه - عن المتغير الجوهري الذي كان يجب – إنسانياً وحضارياً – أن يحدث؛ ولكنه لم يحدث بعد، ولا يُريد له هذا الخطاب الانغلاقي المتزمت أن يحدث. فهذا الخطاب المتشبّع بكل مكونات التخلف يرى أن المرأة ما دامت قد تعلمت، وأصبحت تقرأ وتكتب، وتعمل في مجالات هامشية تعود عليها بشيء من المال (وكل هذه متغيرات فرضت نفسها بقوة واقع الحال؛ دون أن يكون لهذا الخطاب قناعة ابتدائية بها)؛ فقد أخذت حظها من الحضور المباح! لكنه – إذ يطرح هذا – يتهرب من السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل تغيرت المرأة حقا؟، ومن ثم، هل أخذت حقها فعلا كإنسان/ مواطن، كامل الإنسانية، ومن ثم كامل المواطنة التي تعني المساواة التامة في الحقوق؟. هذه أسئلة يتم القفز عليها عمداً؛ لأنها تمس جوهر الإشكال النسوي الذي لا يريد الخطاب التقليدي أن يحضر في المجال التداولي الثقافي/ الاجتماعي. لقد اتضح أن المرأة بعد أكثر من خمسين سنة من التعليم الواسع، والمكثف، والمُنفق عليه بسخاء، لم تُظهر فاعلية حقيقية – تُناسِب حجمَ وجودها العددي – في السياقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، إذ هي بعد كل هذه الجهود التي بُذلت في سبيل الارتقاء بها، ما زالت - وبصرف النظر عن الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها - لا تتجاوز أدوارُها الفاعلة اجتماعياً دورَ الأم والجدة قديماً، فالإنجاب كان - ولا يزال - هو القيمة الأولى، وربما الوحيدة في حياتها؛ بعد أن تم تحجيم بقية الأدوار، وتحصين بعض المجالات – ثقافياً وإدارياً - من الاختراق النسوي. طبيعي أن تتفاعل المرأة مع مُحددات هذا الحصار بشروط هذا الحصار، وأن تنمو – حين تنمو! – وهي تشدُّ من أزرِ هذا الواقع الذي يقف ضدها، هذا الواقع الذي يختصرها في بُعد واحد فقط، من جملة أبعادها الكثيرة المتضمنة في محض وجودها الإنساني (أي بمجرد كونها إنساناً). وبهذا يتحول الإجباري – بمرور الوقت/ التقادم الذي يؤدي إلى تطبيع ما ليس بطبيعي- إلى اختياري في حياة المرأة. فقوة إيحاء الثقافة ذات الطابع الشمولي، ومن خلفها الأنظمة المُتعاضِدة التي تُشرعِنُ الاضطهادَ في الواقع، ومن ثم في الوعي (وهنا عكس الطبيعي في التأثير الثقافي = الوعي = الواقع)، كل هذا يجعل المرأة تعمى عن آفاق المبادرات الخلاّقة، وتزهد في الفاعلية العامة؛ لأن الثقافة التي يُشِيعها الخطاب التقليدي كإيديولوجيا عامة (وبالتالي كأفق للحضور الرمزي اجتماعيا) تؤكد لها أمرين يختصرانها إنسانياً إلى أضيق الحدود: الأول: أنها لا تمتلك ما يمكن أن تسهم به؛ لأن هذا – بزعمهم – فوق طبيعتها الأنثوية المعطوبة سلفاً (= مقولات النقص) بمحض هوية الأنوثة. وبالتالي، وبما أن ''فاقد الشيء لا يعطيه''، والمعطوب والناقص لا يمكن أن ينتجا إلا ما هو معطوب وناقص، فكل ما تأتي لا قيمة له، ويمكن الاستغناء عنه في كل الأحوال. الثاني: أن الواقع ليس بحاجة إلى ما تسهم به. فكل ما يمكن أن تأتي به، وعلى افتراض جودته (النسبية!)، يستطيع الذكور أن يأتوا بأحسن منه!. كل هذا، وكثير مما لا يتسع المجال لذكره، جعل المرأة ترتد إلى مهامها التقليدية، أو - بعبارة أدق – إلى مهامها التي يريد الخطابُ التقليدي أن يحصرها فيها. صحيح أنها قد تحرص في طور من أطوار حياتها على المشاركة في الشأن العام، لكنها ما تلبث أن تنتكس، خاصة بعد أن تتكرس أمومتها بتعدد الإنجاب الذي يجعل منه الخطاب التقليدي محور نشاط المرأة. وبهذا نرى كيف تجني المرأة (الأم) على المرأة (الإنسان)، أي كيف يجني/ يطغى الجزء على الكل. ومن المؤكد أن هذا الانتكاس ليس طبيعياً، أي ليس خاصية أنثوية، وإنما يتم بدعم مباشر وغير مباشر، منظور وغير منظور، من قِبَل صُناع ثقافة التقليد والتبليد/اللاّعقل، إذ كان – ولا يزال - خطاب اللاعقل/ الخطاب التقليدي يُروّج للمرأة (الأم) على حساب المرأة (الإنسان) يدفع المرأة في هذا الاتجاه. بل لا يني يؤكد - بحماس بالغ - أن (المرأة = أمومة)؛ لا غير. وبناء على هذا الإعلاء التقليدي من شأن الإنجاب في حياة المرأة، بل اختصارها في الوظيفة التناسلية؛ أصبحت المرأة في المسيرة التنموية ذات فاعلية سلبية من جهتين: الأولى: انصرافها إلى المبالغة في الإنجاب عن المساهمة في العملية التنموية، فلا يمكن لذات الثمانية أو العشرة أطفال– فضلاً عما هو أكثر – أن تقوم بدور فاعل في الشأن الاجتماعي أو الثقافي أو الاقتصادي. فهذا العدد من الأطفال كفيل باستهلاكها فكراً وعاطفة وجسداً. ولا يبقى منها ما يمكن أن تتحمل به شيئاً يذكر من الأعباء التنموية العامة في مثل هذه الحال. الثانية: أن هذا العدد يُسهم في الطوفان الديموجرافي، ومن ثم يشكل زيادة في الأعباء على البُنى التحتية المنفذة أو التي تحت التنفيذ. وليس معقولاً في مثل هذه الحال أن يُعاد بناء تلك البنى كل خمسة عشر عاما لتستوعب تضاعف العدد السكاني في مثل هذه الفترة القصيرة من عمر الشعوب. وعلى هذا، فالمرأة التي تصدر عن وعي التقليديين، تزيد في الأعباء، وترهق كاهل قوى الإنتاج وقطاع الخدمات من زاوية التضخم السكاني. فالمرأة التقليدية لا تُعيق التنمية بانشغالها أو كسلها عن الإسهام المثمر فيها، بل تُنتج معوقات التنمية (= الطوفان البشري) أيضاً. 6 يحرص الخطاب التقليدي على تغييب المرأة؛ لتصبح مجرد أرقام، أو – في أحسن الأحوال – مجرد أسماء بلا مسمّيات مُتعيّنة (كما هو الحال في الهوية التي كانت تُمنح قديماً لبعض كبار السن، والتي لا تحتوي على صورة؛ فقد كان الاسم بلا مُسمّى، وفي خانة الصورة مكتوب: ''مُعفى من الصورة'' أو ''مُحجّبة''!). ومن هنا، فليس غريباً أن تكون غائبة فيما عدا ذلك، وليس غريباً – أيضاً – أن يمر اليوم العالمي للمرأة، وغيره من المناسبات في كل عام، فلا نلمس لها أي حضور، حتى ولو كان شكلياً؛ وكأن الأمر لا يعنيها؛ أو كأن المشاركة تعني الاندماج التام في المنظومة العامة لأطروحات العولمة في هذا الشأن. 7 يقف الخطاب التقليدي موقف المتفرج من سلوكيات اجتماعية تُشكّل تمييزاً صارخاً ضد الوجود الأنثوي، وتُنبئ عن احتقار صريح لجنس المرأة. ويمكن تحديد أشد هذه السلوكيات ظهوراً في النقاط التالية: أ كراهية الجنس الأنثوي، لا لشيء إلا لكونها أنثى. وهذا يظهر جلياً في إنجاب البنات/ الاستقبال الأولي للأنثى، حيث تكفهر الوجوه، وتنعقد الألسنة عن التهنئة، ويبدو ذلك الوجه الكظيم الذي تحدث عنه القرآن. وحتى لو ترددت التهاني؛ فإنها لا تتردد إلا في عبارات ملتبسة، هي إلى التعزية أقرب. صحيح أنها ظاهرة بدأت تختفي من على سطح السلوكيات المباشرة عند كثيرين، لكنها في الحقيقة لا تزال غائرة في الأعماق إلى حد كبير، وتظهر بعض ملامحها البائسة عند تحليل بعض التصرفات بما يتجاوز المقاربة المباشرة. إنها سلوكيات يراها مَنْ يريد أن يرى ما يحدث فعلا، وأما مَنْ لا يريد أن يرى، أو لا يستطيع أن يرى فهذا شأنه. وإذا كانت الأشياء بضدها تتبيّن، فما علينا إلا أن نشير إلى أن هذا الاستقبال السلبي للأنثى يحدث في وقت تعمُّ فيه البشرى الظاهرة بالمولود الذكر، وكأنه – وحده – الذي يُمثّل الإضافة الإيجابية للعدد الأسري. إن هذه المشاهد التي تتجه إلى الابتهاج هنا، والحزن الكظيم - ذي الملامح الابتئاسية التي لا يمكن تزييف دلالاتها - هناك، قد لا تعيها الأنثى في صغرها، ولكنها حتما ستعيها بعد ذلك؛ عندما يتكرر أمامها مشهد استقبال القادمات الجدد إلى الحياة من بنات جنسها، حيث ترى نفسها فيهنّ، أي ترى كيف تم استقبالها لحظة ولادتها في كل مشهد من مشاهد استقبال الأنثى في محيطها. وهنا، لا يغيب عن وعي الأنثى أن ثقافة الجاهلي كانت تئدها حية، وثقافة اللاعقل التقليدية تئدها حتى قبل أن تجيء (حين لم ترحب بقومها/ ولادتها)، كما تئدها بعد ذلك في كل لحظة؛ عبر مشهد الاستبشار الاستثنائي بالذكورة، والتبرم الخفي بالأنوثة. ونحن نعجب حين نرى الأم تشارك في هذه المشاهد التي تُبخّس بنات جنسها؛ مع أنها أنثى كمولودتها التي تتمنى – صراحة أو ضمنا - لو كانت ذكراً. لكن العجب يزول حين ندرك أن السلوك هو الوجه المُتجلي للثقافة، والأم في هذا كالأب تماماً، فكلاهما نتاج ثقافة اللاعقل التقليدية التي تحتقر الأنوثة. لهذا، من الطبيعي أن يمارسا السلوك نفسه في مسألة التمييز بين الجنسين؛ حتى وإن كان انتماؤهما الجنسي مختلفاً. ب فَهْمُ الشراكة الزوجية على أنها تعني تبعية طرفٍ لآخر. فما زال الرجل في البيئة التي تسود فيها الثقافة التقليدية لا يرضى بما دون الهيمنة المطلقة. فهو الذي يُحدّد جميع مناحي النشاط المسموح به، حسب ما يمليه عليه هواه، وما تستجيزه رؤاه (وهي الرؤى التي قد تأتي على لسان المرأة طوعاً بفعل الهيمنة التي لا تشعر بها على مستوى العقل الواعي). وإزاء هذا، لا نجد لخطاب التبليد/ التقليد أي دور في تحديد الأدوار وتنظيمها بما يكفل الحد من هذه الهيمنة؛ مما يشي بحقيقة أنه وراء هذا الفهم التسلطي الذي يلغي الحضور الأنثوي/ المرأة إلغاء تاماً، أو شبه تام، لحساب الحضور الذكوري. ج تَتَعدّد الرموز، وما يتبعها من كنايات (البيت، الأهل، سواد، الجماعة، أم فلان...إلخ)، في الإشارة إلى المرأة، وكأن اسمها عورة، أو كأنها بلا اسم. ومن ثم بلا وجود. فالتسمية تخصيص للمتعين، بل إيجاد له، ولا وجود بلا هوية ممايزة. وبهذا يكون عدم ذكر الاسم عدم اعتراف ضمني بالمسمى/ الوجود الأنثوي، إذ يتم إلغاؤه أو تجاهله بالتنكير الصريح أو الضمني. وهنا يصبح السؤال: (أليس من حق المرأة أن تُذْكَر باسمها الصريح؟)، هو السؤال الإنساني: (أليس من حق المرأة أن تُوجد)، أقصد: أن يكون لها وجود واضح ومستقل يعبر عن هويتها كإنسان؟!