(هذه المرة أكتب بعد أن قررت أن أقاسمهم أحلامهم، أساطيرهم، وتلك الضوضاء القادمة من الأمكنة والتي تبني بداخلنا جسور وتغلق منافذ أخرى للهجرة من الجسد إلى الروح، هذه المرة أدخل "شمال القلب" لألتقي بشخوص من بعيد، لم ألتقيهم قط، أحدثهم فيتحدثون معي ويتكلمون مع بعضهم دون أن يلتقي بعضهم ببعض سوى في غرفة الروح هذه ومن وراء الغياب، ورائحة الورق أجمع شخصيتين أدبيتين لأحلم بأنني التقيهما في مكان عابر فتحدث تلك الانقلابات.. هذا البوح حقيقي ولكن طريقة سرد الواقعة مجرد أحلام مشتهاة، أقدمها على طاولة القارئ ولمن يهمه اقتناص الخيال لنجرب كيف من الممكن أن نلتقي ونحن لم نلتق حقيقة سوى بنية واحدة.. نية ممارسة انقلابات الروح وانفلات القلب.. صدق أو لا تصدق كل ما تقرأه.. والحقيقة بأنني اجري حوارين مع شخصيتين.. الأول: الكاتب المسرحي اللبناني الجميل نبيل الأظن المقيم في فرنسا والثانية: الروائية المصرية المختلفة: ميرال الطحاوي المقيمة في الولاياتالمتحدةالأمريكية. وكلاهما تحدث معي بنية الحوار ولكن لم يعرف أحدهما بمن سيلتقي ومن هو الطرف الآخر الذي سيقاسمه هذا البوح لتحدث الدهشة. وأنا برفقتهما في منطقة محايدة حلمت أننا نلتقي في مدينة "شنغهاي" في الصين.. فأرجو أن يكون هذا الواقع حلماً في وسط الدهشة.) ميرال الطحاوي "كان المطر يتساقط حينما خرجت في شوارع "شنغهاي" الفاتنة التي اعتادت أن تركض خلف الغيم لتلاعبه، فيما أغلب الناس يرتدون المعاطف السوداء، يسيرون في شوارعها في زحام شبيه بالموج وكأن هذه المدينة المجنونة ليس لديها سوى المرح والجمال والحياة.. اشتريت لي بعض قطع الحلوى واتجهت نحو ميدان الشعب(People Square) اخفي جريدتي خلف معطفي، وامسك بمظلتي الحمراء فوق رأسي لا لأحتمي من المطر بل لأحتمي من نفسي.. أجد مقعدا فارغا قريبا من الممر الرئيس للميدان وقد تحلق حوله الحمام الأبيض الذي اعتاد أن يلتقط الحبوب من أيدي المارة . أضع مظلتي على المقعد واجلس لأقرأ بعض الأخبار.. أرفع رأسي.. ألمح الروائية المصرية الجميلة "ميرال الطحاوي" برفقة المخرج المسرحي اللبناني المميز "نبيل الأظن".. أنهض ألوح لهما.. أقترب منهما بعد أن أبادلهما التحية.. وأدعوهما إلى شرب الشاي في ذلك الميدان الشاسع.. ولتبدأ رحلتنا نحو السماء.. أحب المدن التي تشع بالأنوار.. تأتي من بعيد وتذهب إلى البعيد نختار لنا مكانا قريبا من أشجار "شانغي" الطويلة، أضع جريدتي فيما تضع ميرال الطحاوي بعض الكتب، ويخلع نبيل الأظن معطفه و يرتبه على الطاولة ثم .. ننطلق في حديث حميم.. يقطع ذلك الحديث طفلة صغيرة تركض في فناء الميدان، وكلما اقتربت منها الطيور تضحك بصوت عال وتهرب.. وتعود من جديد لمشاكسة الطيور.. نتأمل جميعا ذلك المشهد المزدحم بالدهشة.. ثم أعلق: عبير: في كل عام. نكبر. نتغير ويبقى بداخلنا قلب صغير ينبض كلما تذكر أحلامه الصغيرة.. لا الزمن قادر على استعادتنا، ولا الأحلام قادرة على أن تأتي بنا.. لا نعرف كم مره غيرنا الزمن ؟ وكم مرة جاءت الأحلام بنا؟ لنعبر إلى الضفة الأخرى علينا أن نموت من الخوف والوحدة ميرال: لا أفكر في الزمن باعتباره معادل حتمي للتغير . يعيش بعض البشر حياتهم كلها بلا محطات للانتقال والتطور. بالنسبة لي عرفت حياتي الكثير من المحطات التي غيرت فيها توجهاتي من أقصى اليمين إلي اقصى اليسار ومن القبيلة للجماعة للكتابة للاغتراب والعزلة وما زلت اعتقد أن الحياة مغامرة لاكتشاف الذات واكتشاف العالم وان الكتابة مرآة كبيرة نرى فيها كل أحلامنا الصغيرة والكبيرة معا , الكتابة هي المغامرة الأولى التي تستحق أن نعيشها بكامل حريتنا وإرادتنا على الخلق والإبداع وإذا كان ثمة حلم لم اعرف كيف أحققه حتى الآن فسيكون التفرغ للكتابة بالقدر الذي أريد واطمح. في حديقة الغيم.. أحلامنا أصغر من مرآة وأكبر من الكتابة! ** ينظر نبيل الأظن إلى ميرال.. ثم يطلق نظره إلى الفضاء.. ويسود صمت طويل بداخله.. ** أقطع ذلك الصمت: ولكن ألا تلاحظا بأننا نفضل أن نسافر وكأننا في الغربة نجد ذواتنا متجردة، عارية من كل شئ سوى من أيام مازالت عالقة في الذاكرة.. ولا أفهم.. لماذا نرحل ونختار غربتنا بأيدينا؟ كم غربة علينا أن نعيشها حتى نجد ذواتنا؟ ** يقطع نبيل الأظن ذلك الصمت ليعلق: غالباً مايكون قرار الهجرة قسرياً وليس إرادياً، إما بسبب الحرب، أو لأسباب اقتصادية أو ربما بدافع الحب أيضاً، حيثُ يستدعي الحبُّ صاحبه للرحيل عن بلاده والإقامة في بلد محبوبه، مواجهةُ الذاتِ للذات، هي أول مصاعب الاغتراب وأكثرها عُنفاً و قسوة، ولكن لتصل فيما بعد إلى أمرٍ في غاية الأهمية والإيجابية، إذ قبل الهجرة، يكون لديك صورةٌ راسخةٌ عن نفسك، وما أن تصل إلى البلد الذي هاجرت إليه حتى تبدأ تلك الصورة بالاهتزاز، وتفقد وضوحها وتصبحُ ضبابية ويبدأ الشك بها، ما يدفعكَ إلى البدأ في التخلي عنها والغوص عميقاً في محيط ذاتك، لتصل إلى الجوهر، إلى الحقيقة، إلى الأصل، فلا تبقى عند حدود الصور والتصورات. ** تقلب ميرال صفحات الكتاب الذي بين يديها بطريقة عشوائية ثم تقول لنبيل: سؤال الاغتراب جوهري في مسيرة الكتابة العربية، فالكثير من الكتاب اختاروا الهجرة الدائمة أو المتقطعة ربما طمعا في المغامرة واكتساب تجربة أعمق من المحيط المحلي وربما هربا من أوضاع سياسية أو اجتماعية، في تجربتي كنت اشعر أنني لم انضج بعد واحتاج لخبرة السفر كي أعيد تقييم مفاهيم للتحرر والاعتماد على الذات بالإضافة لشعوري بالحاجة إلي تعليم أفضل أو اللحاق بثقافة منتجة وقادرة على تثقيفي وتأهيلي على المستوي الأكاديمي والأدبي ولا شك أنني عانيت كثيرا في تجربتي وبدأت من الصفر في مجتمع اجهله كلية وليس لي علاقة بثقافته أو قوانينه. تصمت قليلا.. ثم تتابع بعد أن تسرقها للحظة الذكريات إلى الخلف: ولا أنكر أنني تعلمت الكثير وكان الدرس الأول الأقسى هو أن سقف البيت له ثمن وان علي أن اركض لأوفر لنفسي ولابني هذا السقف أو الحد الأدنى من الاحتياجات الإنسانية وتعلمت القسوة الحقيقية وهي أن تشعر بان الحياة قاسية وانك لا تجد حولك من يكترث لموتك أو حياتك أو وجودك. تجربة الغربة قاسية على كل مهاجر وخاصة إذا أصبح الوطن العربي مصدرا كبيرا للاجئين الذين يتكاثرون حولك في الغربة بنزاعاتهم السياسية والاجتماعية وتكتشف أن كل ما هربت منه من نزاعات يحاصرك بقسوة مثل القدر. ** يبدأ المطر بالتساقط من جديد، فيما صوت قطراته تشعل الحنين والحب.. أمد يدي إلى الفضاء. ألتقط بعض المطر أمسح على وجهي ثم أقول: "حينما يسقط المطر ليبلل الأرصفة.. ويجعل للشوارع رائحة بنكهة القلب. حينما نعيش انهمار المطر بعيدا عن كل شيء تركناه خلفنا ومضينا.. في تلك اللحظات.. نفتح ذراعينا للسماء ليركض المطر لقلوبنا ويحضننا بالحب وكأن في ذلك محاولة للاغتسال من الألم.. حينما تمطر السماء و يرتطم السحاب فيها يذكرني ذلك.. بأشياء كثيرة.. ولكن ماذا يجب أن نقوله للمطر ليأتي إلينا مهرولا ومقبلا؟" يبتسم نبيل بعد أن يمد يده إلى الفضاء وكأنه يجرب أن يلامس السماء ليعلق: - في لبنان نستخدم كلمة "الشتا" باللهجة العامية، لنعبر بها عن المطر وعن فصل الشتاء في آنٍ معاً، ربما لأنَّ المطرَ هناك، لا يهطلُ إلا في فصل الشتاء، ولكنني عندما وصلتُ إلى فرنسا، فوجئتُ بأن المطرَ يهطلُ في كل الفصول، وأنَّ فصل الشتاء فصلٌ يستمرُّ في كلِّ الفصول، ما جعلني أتأمّله جيداً، الشتاء يساعدنا في النفاد إلى أعماقنا أكثر، الشتاءُ، ليس مرادفاً للعتمة أوالبرد أوالشيخوخة، أو لكلِّ مايعبر عن عكس الفرح والضوء، الشتاء هو الحياة، إنه سلّم يعقوب الذي يصل الأرض بالسماء، سلمٌ من نقط ماء نتسلق فوقها كي نصل إلى الأعلى، متحررين من الحدود والمحدود، واصلين إلى حيثُ الخيال والحلم والشعر. الشتاءُ هو الخصوبة. امرأة تقفُ خلف نافذة، وتنظرُ إلى البعيد، من خلالِ الزجاج المُغتسل بالمطر. الشتاءُ هو الأمل. ميرال: أنا عشت لفترة في نيويورك حيث يطل هذا الضباب بقسوة ثم تنقلت في البلاد بحثا عن عمل تنقلت بين ست ولايات أمريكية تباعا من الشمال لأقصي الجنوب وربما كانت أريزونا هي الأخيرة التي طال استقراري فيها أكثر من عام أتذكر المرة الأولى التي حضرت للولاية لإجراء مقابلة العمل وكان ذلك في شهر مارس وقد شاهدت لون الصحراء الأصفر والجبال وهضباتها الجملية من الطائرة ثم تناولت أول وجبة لي في مطعم قديم يسمى بيت الحيل كان المطعم بيتا قديما لسيدة عشقت الطبخ وكان طعامها مليئا بالوصفات المطبخية الجديدة، في حديقة المطعم يجلس الرواد ومن حولهم أشجار البرتقال المزهرة وطنين النحل ورائحة الخشب القديم وعلى الفور أحسست أنني قد انتقلت إلى بيت جدتي ثمة شيء ربطني بهذا المكان، لم يكن بالطبع ضبابيا، بعدها زرت الكثير من بيوت الجالية العربية التي حملت الوطن معها وشاهدت النخل وأشجار الموالح وأزهار الياسمين ورائحة السمك المسقوف، تعيد خرائط الأوطان المفقودة تلك الصحراء الممتدة التي تسمى ولاية أريزونا هي خليط من شعوب تحاول استعادة صورة الوطن وربما تقف القبائل الهندية القديمة بمستعمراتها وملامح ابنائها بشعورهم الطويلة دليلا على محنة الإنسان الأزلية في استعادة ذاكرته وتاريخه. عبير: أجل ربما يكون ذلك هو الواقع .. ولكن أيمكن أن يكون القلب متسعا للفرح أكثر من اتساعه للحزن؟ كم مرة علينا أن نوسع حقيبة القلب ليناسب حجم تجربتنا في الحياة وأن نصر على ذلك حتى إن مزقنا من تلك الحقيبة قليلا؟ نبيل: عندما نقف أمام مشهد جميل نقول باللهجة العامية اللبنانية" شي بيشرح القلب" وأمام مشهد حزين نقول"شي بيغم ع القلب"، فالقلب هو مكان الشعور والعاطفة، يخفق حباً أو ألماً، وكل ما يحدثُ في الحياة على نقيضيها من فرحٍ ومن حزن، يدخل إلى القلب ليوسّع من مساحته أو يُضيِّقها، حتى تغدو صورته شبيهةً بالرسم البياني لنبضاته، لكنَّ واجبنا كبشر يكمن في تحويلِ كل تجارب الحياة مهما كانت مؤلمة إلى وسيلة لجعل مساحة القلب تتسع لا أن تضيق، مهما كان عدد الضربات الموجعة أكبر. فكلما اتسعت الرؤيَّة اتسعت رقعة الإحساس، وكلما ازدادت صعوبة التجارب التي نعيشها وكلما استطعنا اجتيازها،كلما خرجنا بقلب أكبر ورأس أكبر. بعد كل التجارب السهلة والصعبة التي خضتها،وصلت إلى أن أقبل نفسي كما هي، لا كما يُرادُ لي أن أكون أو كما تخيلت أن أكون، جميل أن يصلَ المرء إلى اكتشاف مكانه الحقيقي في العالم، حيث تذهب إلى الآخر وتبني معه علاقة مجردة من المصالح، نزيهة عن الرغبات، تكون حراً بتوجهك إليه وانتمائك له، لا نتصارع على شيء، بل نكِّمل بعضنا ونُكمل المشوار. عبير: ولكن ذلك الاكتشاف وتلك الحرية تحتاج إلى قرار.. وهو المصير.. هو ذلك التحول الخطير وهو القفز فوق التل العظيم حتى إن علمنا بأننا قد نسقط في مجهول ذلك القرار.. أيمكن أن يختار القرار صاحبه أم أننا من نختار القرار.. هل القرار الصعب من يقبض علينا؟ وهل تشبهنا تلك القرارات؟ ميرال: أظن يا -عبير- بأن ذلك يتوقف بحسب الشخصية.. فأنا- مثلا - شخصية عنيدة بالفطرة واختار كل مرحلة قراراتي بحزم وأنفذها بصرامة لأني اعتقد بيقين أن الأشياء التي نتمناها يجب أن نلاحقها، لا أقول الحصول عليها لان ذلك إرادة الله ولكن على الأقل مطاردتها والإخلاص لما نعتقد انه في صميم إرادتنا. عرفت الكثير من القرارات الصعبة كان في مقدمتها الكتابة والنشر ولا تزال الكتابة هي القرار الأكبر والاهم في حياتي، أحيانا أتعامل معه باعتباره قدراً أيضا إلى جانب ذلك ثمة قرارات شخصية نأخذها كل يوم، أن تفارق صديقا، أن تدفن حبيبا أن تغادر بيتا، أن تترك عملا وهي قرارات آخذها باعتبارها كلها ضريبة أن تكون إنسانا وان تختار أي نوع من البشر أنت، قادر على أن تعيش لاشك أن قرار الانتقال إلى الولاياتالمتحدة والبحث عن عمل في الغربة كان قرارا ثقيلا لكن على ما أظن مثل لي نقلة نوعية على مستوى النضج الإنساني" ** تصمت قليلا.. تلمس بدفء حافة الطاولة وكأنها تجرب أن تلمس تلك التجربة.. ثم تكمل: "أقسى قراراتي على الإطلاق هو حين أغلق صفحة صديق فلا زلت لا أحب فقد البشر وان أدركت انه ضرورة بشرية في مراحل مختلفة من حياتك" ** يحمل "نبيل" كأس الشاي الساخن ويرشف منه القليل.. يضعه ثم يقول: "- يقول الكاتب والمفكر الروماني سيوران :" نركضُ وراء مصيرنا وكأننا نعرفه مسبقاً". عندما كان عمري ثلاثة عشر عاماً، حلمتُ أكثر من مرة أنني أقيمُ في فرنسا، وأنني أكتب باللغة الفرنسية، مع أن عائلتي لم تكن فرانكوفونية، من أين أتاني هذا الحلم؟ ومن أين جاءتني هذه الصورة؟ كأنني كنتُ أحلم أن أعيشَ في لغة. عندما قامت الحرب في لبنان، قررتُ أن آتي إلى فرنسا وأقيم فيها بصورة موقتة حتى تنتهي الحرب، وكأنه قرارٌ أُخذ مسبقاً وكأن فرنسا كانت في مخيلتي كمكانٍ أليف، مكان حنون كأم كما كان يقال، فجئنا إليها طالبين ملجأً لنا من القنابل، ولجوءاً إلى الوطن اللغة كما قال سيوران أيضاً " اللغة وطن" . القرارات التي أتخذها اليوم صرتُ أتخذها بحرية أكبر بفضل التجارب والخبرة والوعي الأكبر وربما أيضا لان تصوري عن ذاتي أقرب إلى حقيقتي. ** ثم ينظر إلى "ميرال" ويبتسم ليقول: "على كل في حياتنا نتخذُ قرارات نعلم مُسبقاً أنها خاطئة، لأنه يجب علينا اتخاذها، وحده القرار الخاطئ من يعلمنا، لأنه يدفعنا فيما بعد لاتخاذ القرار الصحيح، ويوضح لنا الرؤية، ويُنير الدرب" عبير: "إنها الحياة.. المسرح الكبير.. وفي المسرح يحسن الكثيرون أداء الأدوار وارتداء الأقنعة. يمثلون الحب، يمثلون الحزن، ويمثلون الضعف والأشواق! أيمكن للمرء أن تكون لديه القدرة على تمثيل الأشواق وبأن هناك لهفة تسكن عينيه وتسرق قلبه؟" ميرال: لا أحب تصنيف المشاعر الإنسانية، كلها مشاعر مختلطة وتأتي بشكل تلقائي وربما أصعبها كما قلت هو الفقد ومنه تتتوالد الأشواق الفقد هو الشعور بالنقص بعد الكتمال والشعور بالخوف وبالقسوة وبأن شيئا مجهولا اكبر من قدرتنا الإنسانية، فقدت أبي مبكرا وفقدت أمي بعد رحلة مرض موجعة وفقد الكثير من الأحبة والأصدقاء بالفقد أو البتر كما يسميه فرويد، يسعى الإنسان إلى الكمال المنقوص وان ظل الحنين الإنساني للرحم الأول هو مصدر الفقد والعزاء معا. ** يعود "نبيل" بجسده إلى الوراء على المقعد كمن التقط فكرة ويقول: المسرح هو الحياة ذاتها، وهو مكان الأشواق، جسدها الإغريق وشكسبير وموليير وغيرهم.. أجد أنني وفي كل أعمالي المسرحية، أركض وراء شوق واحد، هو أن أفهم ما تعنيه الغربة، الغربة في كل مكان، في الحب كما في السعادة، ويتملكني هاجس واحد، هو اللقاء مع الآخر، ومسرحي جسرٍ للتواصل معه من يراقبُ العالم اليوم يرى بأنه يزداد انغلاقاً، ويلاحظ ارتداد الناس لحضن العائلة أوالدين أو الطائفة أو الحزب أو المؤسسة، ونلاحظ أيضاً عودة التيارات الدينية أو السياسية المتطرفة إلى الحياة العامة، لم نكن نتخيل أن الفكر النازي يمكن له أن يعود للظهور مرةً أخرى، كنا نحسب أنه أصبح من الماضي من التاريخ، هاهو يعود، كما لو أن الأفكار المتطرفة وحشٌ نائمٌ في أعماقنا، يسكنُنا من الداخل، وقد يستيقظُ في أي لحظة. وهدف الفن عموماً، مدُّ الجسور نحو الآخر، لنحارب الوحش الساكن فينا، ومن هنا تأتي أهمية الانفتاح على لغة الآخر وعلى ثقافته، وكم هو جميلٌ جنون الفن، أمام جنون السلاح. عبير: أظن بأن في التلاصق مع المدن انفتاح شهي على ثقافة الغير. تلك المدن تشتهينا كما نشتهيها.. هناك مدن تسكننا قبل أن نسكنها.. وكأنها تنتظرنا على مقعد العشق لتسرقنا من كل شيء ثم تهدينا الألوان والبالونات والزهور.. سكنتني جدا مدينة "شنغهاي" .. بها أجدني كما أنا.. وماذا عنك يا -ميرال- متى آخر مرة راقصتك مدينة تحت المطر؟ ميرال: سافرت كثيرا وتنقلت بين مدن مختلفة، كل مدينة هي حالة بحد ذاتها.. لا انسى مدينة دلهي بألوانها وروائحها وقدرتها على أن تكون مصدر الألق والنفور في الوقت ذاته، أحببت نيويورك بنزقها وتلونها الفصلي وقدرتها على الإغواء، أحببت نيو اولينز بجنونها وليلها الصاخب، ولكن لم أزل اشعر أن أجمل البلاد هو بيت أبي مدينة طفولتي بخيله وجماله وطيوره الجارة على مساطب ومضائف أهلي وقبيلتي.. أنا كائن صحراوي ولا اجد متعة اكبر من احتساء الشاي الأسود من بكرج وراكية خشب تحت سماء لم تلوثها البشرية بضجيجها. ** نبيل مبتسما: "عندما كنتُ أتخيلُ فرنسا كبلدٍ مُشتهى أو باريس كمدينة مُشتهاة، كانت كفضاءاتٍ مجردة، ولكنني عندما جئتُ إلى باريس لاجئاً، تغير ما كان يجذبني إليها، وتحول إلى عمل ذاتي، إذ عليك أن تروض المدينة وتروض نفسك فيها. في صغري حلمتُ بزيارة العديد من المدن والبلدان، أما اليوم فلم يعد يهمني الأمر، ما يهمني هو الهيم في المدن التي يسكنها الجمال، إضافة إلى المدن التي تمتلك جزءاً مني، كبيروت لان الطفولة ما زالت ترقص فيها، أو دمشق التي تمنحك مباشرة شعوراً بأنك تلمسُ التاريخ وأنك في حضرته، أحب أن أزور المدن المليئة بالأنوار كالبندقية أو أمستردام، تلك الأنوار النابعة من متاحفها وعمرانها، وأفضل المدن الأوروبية على الأمريكية لأنها تمتلك أضواءً قادمة من بعيد وذاهبة إلى البعيد أيضاً. مؤخرا تركت باريس لأسكن بالقرب من مدينة أفنيون في الجنوب الفرنسي وفيها الجمال والتاريخ، فأضواء البحر الأبيض المتوسط في فرنسا طالما جذبت الفنانين التشكيليين البافي أوائل القرن العشرين مثل فان كوخ، وماتيس أو بيكاسو.. ويجوز أن أكون عما تقرب بعض الشيء من الجنة المفقودة، بلدي الأم لبنان." ** انهض.. اتراجع إلى الخلف.. أفتح ذراعي إلى الفضاء.. آخذ الغيم إلى قلبي.. اضحك وأتمتم: "في كل الأحوال ومهما كانت الصعوبات.. يجب أن نتصالح مع هذا القلب.. أن نفتش عن العشق وأن نبقيه حيا. ** تقف ميرال بعد أن تمسك بالكتب وتلوح لي بها عاليا ثم تبتسم: "اعتقد أنني اعشق ميرال الأم التي تكرس حياتها لمفهوم الأمومة ثم ميرال الكاتبة التي تبحث عن فضاء اكبر وأعمق للكتابة، الغربة في الحقيقة تعلمك القسوة وتصبح مفرداتنا المعهودة عن العشق ترف.. الحياة في اغتراب اللاجئين هي محاولة لإدراك التوازن في مركب مبحر تعرف انه معرض للغرق كل لحظة وتدرك أن الموت ليس خيارك بل إن خيارك هو الحياة والنجاة ولكن لكي تعبر للضفة الاخري عليك أن تموت من الخوف والوحدة والانجراح كي تجد ارضاً صلدة تحت قدمك، تؤجل المحبة والعشق وتعتبرهما خيار البشر الأكثر حظا في الحياة." ** يقف نبيل ثم يرتدي معطفه ويعلق: "لا أعرف ماذا يعني أن يحب أحدهم نفسه، من الممكن أن يكون الشخص أنانياً ومع ذلك يكره نفسه. نبيل الذي تركته في بيروت عام 1977 لا أعرف إن كان مايزال يهمني اليوم، وإذا حدث والتقيت به،ربما سأصاب بالملل منه، هذا لا يعني أن نبيل الذي وصلت إليه يهمني، ولكني على الأقل مقتنع بما وصل إليه نبيل. وحده الحب بين شخصين جدير بان يسمى حب، وحده القادر على ملء فراغين، فراغك الشخصي، وفراغ المرأة التي تعشق، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المرأة التي تعشق، والعشق هو أجمل شيء في هذه الحياة، يمكن لأننا نعرف انه وهم. انه ذلك الوهم الرائع الذي لا يمكننا العيش كاملا بدونه. من عنده حنين لصباه يقول إن الحب الأول هو الأقوى ومن همه الحاضر والمستقبل، وأنا منهم، عشقه الأخير وحده الأكبر. ** نفترق.. بعد أن نترك خلفنا طاولة فارغة إلا من بوح لم يكن إلا في الذاكرة ومن خلال جزء من مكان في شمال القلب..