في 21 تشرين الأول أكتوبر 2014، أعلن رسمياً عن فشل المفاوضات الثلاثية بين روسياوأوكرانيا والاتحاد الأوروبي بشأن إبرام اتفاقية موقتة لتوريد الغاز الروسي إلى الجانب الأوكراني. وقد رد هذا الفشل إلى عدم توفر مصادر مالية كافية لدى أوكرانيا لتسديد الديون المترتبة عليها للروس. يُمثل الغاز الطبيعي ساحة صراع دولي وتنافس جيوسياسي بين الدول الكبرى. وقد تجلى هذا الأمر بصفة أساسية، في سعي الغرب لكسر الهيمنة الروسية على سوق الغاز في أوروبا وأعلن في بروكسل بأن المفوضية الأوروبية لم تحدد حتى اليوم مصادر التمويل المحتملة لسداد ديون أوكرانيا الناجمة عن وارداتها من الغاز الروسي. وإن الأوروبيين سوف يبحثون في مجلس أوروبا مسألة تخصيص قرض لكييف لهذا الغرض. وقد اقترح الأوروبيون استخدام الموارد المالية التي تحصل عليها شركة "نفطوغاز" الأوكرانية مقابل ترانزيت الغاز الروسي من أجل سداد الديون. بيد أن روسيا رفضت هذا الاقتراح، مشيرة إلى أن اتفاقية الغاز الموقتة لا تنص على ذلك. وإن المصادر المحتملة لسداد الدين هي ضمانات من البنوك الأوروبية، وقروض قصيرة الأجل، وموارد البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير أو المفوضية الأوروبية. فبلغت ديون أوكرانيا المستحقة لشركة "غازبروم" 4.5 مليارات دولار. وذلك بعد قيام روسيا بإعادة احتساب حجم الدين وحسم مليار دولار منها. ومن المقرر أن يتم سداد 1.4 مليار دولار قبل نهاية تشرين الأول أكتوبر، و3.1 مليارات دولار قبل نهاية العام الجاري. وقد تم الاتفاق مبدئيا فقط، في إطار المباحثات الثلاثية، الروسية الأوكرانية الأوروبية، على سعر الغاز لفترة الاتفاقية الموقتة حتى آذار مارس 2015، بواقع 385 دولاراً لكل ألف متر مكعب. وكانت شركة "غاز بروم" قد أوقفت امدادات الغاز عن أوكرانيا، في السادس عشر من حزيران يونيو 2014، واتجه البلدان إلى المحكمة التجارية الدولية في ستوكهولم، يشكي كل منهما الآخر. وإدراكاً منها بحساسية الموقف، سارعت "غازبروم" للإعلان عن أن إمدادات الغاز المتجهة إلى المستهلكين الأوروبيين عبر أوكرانيا تضخ كالمعتاد، حسب العقود القائمة. وشددت على أن مسؤولية وصولها إلى الأوروبيين تتحملها السلطات الأوكرانية. وقررت "غازبروم"، اعتباراً من ذلك التاريخ، التحوّل إلى نظام الدفع المسبق في تعاملاتها مع كييف، وذلك بعد انقضاء مهلة سداد جزء من الديون قدرها مليارا دولار، وتخلف السلطات الأوكرانية عن الموعد المتفق بشأنه. واندلع أول خلاف بشأن الغاز بين موسكو وكييف بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وتمكن البلدان من انجاز تسوية بينهما في العام 1993. وفي العام 1995، قامت روسيا بتقليص صادراتها إلى أوكرانيا بشكل موقت، بسبب تفاقم مديونية الأخيرة، التي تجاوزت حينها التريليون روبل. وبعد أكثر من عشرة أعوام، تفجرت الأزمة مجدداً، إثر مطالبة كييف برفع الرسوم المترتبة على روسيا لقاء ترانزيت غازها المتجه إلى أوروبا، مع إبقاء سعر الغاز الروسي على حاله. ووافقت موسكو على رفع الرسوم، شريطة دفع أوكرانيا للمستحقات المتأخرة عليها، وفق أسعار الغاز الأوروبية. ولم يتوصل الجانبان حينها إلى حل وسط، وقطعت روسيا الغاز مطلع العام 2006، لتقع أوروبا في أزمة طاقة متعاظمة. وعادت الإمدادات وانقطعت عن أوكرانيا مطلع العام 2009، إثر تفاقم الديون، التي اقتربت حينها من الثلاثة مليارات دولار. وهنا، تقلصت إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، وإن لم تنقطع تماماً. وتأتي غالبية إمدادات الغاز المخصصة إلى أوكرانيا من دول آسيا الوسطى، لكن الجانب الأوكراني يحصل عليها من شركة "غازبروم"، لأن الأنابيب التي يُضخ عبرها مملوكة لهذه الشركة. ومن هنا، يعتبر الغاز غازاً روسياً. وقد اشترت أوكرانيا في العام 2012 أكثر من 32 مليار متر مكعب من الغاز الروسي. بيد أن حجم مشترياتها تراجع عام 2013 إلى 26 مليار متر مكعب. وبلغ حجم الغاز الطبيعي المورد إلى أوكرانيا خلال أعوام 2009 – 2014 (الربع الأول من عام 2014) 147.2 مليار متر مكعب. وكانت موسكو وكييف قد وقعتا في 19 كانون الثاني يناير 2009 اتفاقيتين رئيسيتين: تتعلق الأولى ببيع الغاز لأوكرانيا، خلال الفترة بين 2009 و2019. وترتبط الثانية بالرسم المستحق على الغاز المار عبر الأراضي الأوكرانية إلى أوروبا. وفي كانون الثاني يناير 2014، وقع البلدان اتفاقية تكميلية، تنص على بيع الغاز الروسي بسعر 268.5 دولارا لكل ألف متر مكعب، خلال الربع الأول من العام 2014. وفي نيسان أبريل 2014، قررت شركة غازبروم رفع سعر الغاز المباع لأوكرانيا إلى 386.5 دولاراً لكل ألف متر مكعب من الغاز، بعد إلغاء حسومات تم الاتفاق عليها في نهاية العام الماضي. ثم قامت روسيا بإلغاء تخفيضات أخرى بقيمة 100 دولار، كانت قد منحت لأوكرانيا بناء على اتفاقية خاركوف الموقعة بين البلدين عام 2010، ما عنى ارتفاع السعر إلى 485 دولاراً. وهناك وفرة نسبية على صعيد الاحتياطات العالمية من الغاز الطبيعي، إلا أن صناعته، إنتاجاً وتصديراً، لا تتناسب مع حجم هذه الوفرة. وفي العام 2010، قدر حجم احتياطي الغاز الطبيعي العالمي ب 187,1 تريليون متر مكعب. وقد سيطر الشرق الأوسط ومناطق الاتحاد السوفياتي السابق (بما في ذلك روسيا) على 72% منه. ويتم تسعير الغاز إما عبر عقود طويلة الأمد بين البائع والمشتري، وإما مباشرة من خلال السوق. وفي الحالة الأولى، يقوم بعض المنتجين بربط سعر الغاز بالنفط. ويدفع المستهلكون في الوقت الراهن أسعاراً متفاوتة للوقود الأزرق، إن بسبب تباين مواقع دولهم من حقول الإنتاج أو مساهمتهم في تشييد الأنابيب، أو لاعتبارات أخرى. وكمثال، تشتري الصين الغاز من بعض دول آسيا الوسطى وفق أسعار تقل عن نصف أسعاره العالمية، مستفيدة من قدرتها على فتح طرق جديدة لصادرات هذه الدول بعيداً عن روسيا. وتفيد وكالة الطاقة الدولية بأن الغاز الطبيعي هو الوقود الأحفوري الوحيد الذي يتزايد الطلب العالمي عليه في جميع سيناريوهات استهلاك الطاقة. ويشتد نمو الطلب في الصين والهند والشرق الأوسط. وسيرتفع الطلب في الصين من حوالي 130 مليار متر مكعب عام 2011 إلى 545 مليار متر مكعب في العام 2035. وفي الولاياتالمتحدة، قد يؤدي انخفاض الأسعار ووفرة العرض إلى تخطي الغاز للنفط، بحلول العام 2030، ليصبح أكبر وقود في مزيج الطاقة الأميركي. أما أوروبا، فتحتاج إلى حوالي عقد كامل لتعود إلى مستويات الطلب الذي كانت عليه في العام 2010. وتشير التقديرات الرسمية إلى أن واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز الطبيعي سوف تمثل في العام 2030 ما نسبته 85% من مجمل استهلاك الغاز فيه، مقارنة ب50% في العام 2000، وذلك في وقت تتحول دوله إلى الغاز بدلاً من النفط والفحم. ومن المتوقع أن يصل إجمالي الطلب على الغاز في دول الاتحاد في العام 2020 إلى 619 مليار متر مكعب. ويشكل الغاز الروسي ما نسبته نحو 23% من إجمالي حجم الغاز المستهلك في دول الاتحاد، مقابل 10% للغاز الجزائري. علماً بأن الجزائر تصدّر الغاز الطبيعي إلى المنطقة الأوروبية، الواقعة في حوض البحر الأبيض المتوسط، فيما تؤمن روسيا الوقود الأزرق للشمال الأوروبي، بصفة أساسية. وقد حدثت هجمة طلب على الغاز الطبيعي في العديد من مناطق العالم، نتيجة مجموعة من العوامل، منها إصلاح قطاع الغاز، الأمر الذي خلق تنافساً في إنتاجه، وإصلاح قطاع الكهرباء الذي أدى إلى زيادة كبيرة على جيل مشترك من التوربينات الغازية (CCGT)، وكذلك تنامي ما يصطلح عليه بالاعتبارات البيئية، المرتبطة باستهلاك المركبات الهيدروكربونية الأخرى. ويُعد الطلب على الوقود الأزرق الأسرع نمواً بين صنوف الطاقة المختلفة. وقد باتت أسواقه، تخرج من نطاقها الثنائي والإقليمي التقليدي، لتأخذ طابعاً دولياً، أكثر ارتباطاً بمعايير السوق، وذلك بفعل تنامي حصة الغاز المسال، في إجمالي تجارة الغاز العالمية. وفي دلالاته الأكثر مرجعية، يُمثل الغاز الطبيعي ساحة صراع دولي وتنافس جيوسياسي بين الدول الكبرى. وقد تجلى هذا الأمر بصفة أساسية، في سعي الغرب لكسر الهيمنة الروسية على سوق الغاز في أوروبا، فشجع على الاستثمار في دول واعدة، ودخل في مشاريع لتشييد أنابيب نقل الوقود الأزرق، من منابعه في آسيا الوسطى والقوقاز، باتجاه أوروبا، بعيداً عن الأراضي الروسية، التي لا تزال تمثل ممراً قسرياً له. إن الإمساك بزمام الغاز الطبيعي، وخطوطه وممراته، قد بات جزءاً أصيلاً من معايير القوة الجيوسياسية في عالم اليوم.