حرب غاز جديدة انطلقت بين روسياوأوكرانيا، هي الثالثة من نوعها منذ العام 2006. ففي صباح السادس عشر من حزيران يونيو 2014، قطعت شركة "غاز بروم" الروسية، امدادات الغاز عن أوكرانيا، واتجه البلدان إلى المحكمة التجارية الدولية في ستوكهولم، يشكي كل منهما الآخر. وادراكاً منها بحساسية الموقف، سارعت "غازبروم" للإعلان عن أن إمدادات الغاز المتجهة إلى المستهلكين الأوروبيين عبر أوكرانيا تضخ كالمعتاد، حسب العقود القائمة. وشددت على أن مسؤولية وصولها إلى الأوروبيين تتحملها السلطات الأوكرانية. أما أوكرانيا ذاتها، فقد زادت، خلال مفاوضاتها مع الجانب الروسي، مخزونها الاحتياطي إلى نحو 12 مليار متر مكعب. في الأزمة الراهنة، قررت شركة "غازبروم"، اعتباراً من 16 حزيران يونيو 2014، التحوّل إلى نظام الدفع المسبق في تعاملاتها مع كييف، وذلك بعد انقضاء مهلة سداد جزء من الديون قدرها ملياري دولار، وتخلف السلطات الأوكرانية عن الموعد، الذي جرى تحديده بصباح ذلك اليوم. وقال بيان للشركة الروسية أن فرض نظام الدفع المسبق جاء نتيجة لعدم التزام الجانب الأوكراني بشروط العقد الموقع في 19 كانون الثاني يناير عام 2009، الذي يسري مفعوله حتى عام 2019. وكذلك نتيجة لتراكم ديون كبيرة، وعدم سداد ثمن الغاز المورد حالياً. على الصعيد القانوني، قررت شركة غازبروم رفع دعوى قضائية إلى المحكمة التجارية الدولية في ستوكهولم، ضد شركة "نفطوغاز أوكرانيا"، بهدف تحصيل الديون المستحقة لها. ولوحت غازبروم بالاستعداد لرفع دعوى جديدة ضد الشركة الأوكرانية، ومطالبتها بمبلغ 18 مليار دولار. وسوف تتبع بالدعوى الأولى التي رفعت للمطالبة ب 4.5 مليار دولار. في المقابل، قالت شركة "نفطوغاز أوكرانيا" إنها رفعت دعوى أمام المحكمة ذاتها ضد "غازبروم" للنظر في سعر الغاز الذي يتضمنه العقد القائم، وإنها ستطالب باسترداد ستة مليارات دولار من شركة غازبروم. في السياق ذاته، كلف رئيس الوزراء الأوكراني، أرسيني ياتسينيوك، اللجنة الوطنية لضبط الطاقة الكهربائية بإعادة النظر، بشكل عاجل، في تعرفة ترانزيت الغاز الروسي المتجه إلى أوروبا عبر أراضي أوكرانيا. والتعرفة الحالية معتمدة منذ العام 2010. وفي النصف الأول من العام 2013، كانت هذه التعرفة تساوي 3.08 دولار لكل ألف متر مكعب من الغاز لمسافة 100 كيلومتر. وقد انخفضت مطلع العام 2014 إلى 2.73 دولار. في خلفيات الأزمة الراهنة، يُمكن ملاحظة أن الخلاف بين موسكو وكييف قد اندلع، لأول مرة، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وقد تمكن الطرفان من انجاز تسوية بينهما في العام 1993. وفي عام 1995، قامت روسيا بتقليص صادراتها إلى أوكرانيا بشكل مؤقت، بسبب تفاقم مديونية الأخيرة، التي تجاوزت حينها الترليون روبل. وبعد أكثر من عشرة أعوام، تفجرت الأزمة مجدداً، إثر مطالبة كييف برفع الرسوم المترتبة على روسيا لقاء ترانزيت غازها المتجه إلى أوروبا، مع إبقاء سعر الغاز الروسي على حاله. وقد وافقت موسكو على رفع الرسوم، شريطة دفع أوكرانيا للمستحقات المتأخرة عليها، وفق أسعار الغاز الأوروبية. ولم يتوصل الجانبان حينها إلى حل وسط، وقطعت روسيا الغاز مطلع العام 2006، لتقع أوروبا في أزمة طاقة متعاظمة. وعادت الإمدادات وانقطعت عن أوكرانيا مطلع العام 2009، إثر تفاقم الديون، التي اقتربت من الثلاثة مليارات دولار. وهنا، تقلصت إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، وإن لم تنقطع تماماً. وما يُمكن قوله الآن هو إن الخلافات الناشبة بين روسياوأوكرانيا حول أسعار الغاز ليست مفصولة عن السياق السياسي للأزمة بين البلدين منذ الإطاحة بالرئيس الأوكراني السابق، فيكتور يانوكوفيتش. وفي إحدى دلالاتها، تفصح هذه الأزمة عن طبيعة المعضلات الجيوسياسية المستجدة، في عصر ما بعد الحرب الباردة، وتشير إلى أن المشكلات القائمة يصعب حلها دون مقاربة متكاملة، تلحظ الأبعاد السياسية والاقتصادية، بل وحتى السيكولوجية. وتُعد أوكرانيا دولة صناعية، ومصدّرة للمعدات والتكنولوجيا المدنية والعسكرية. ومن هنا، تبدو قضية الغاز حاسمة لها بمعيار الضرورات الاقتصادية، وذلك بموازاة كونها جزءاً من ضرورات الحياة اليومية للمنازل والأسر. وتأتي غالبية إمدادات الغاز المخصصة إلى أوكرانيا من دول آسيا الوسطى، لكن الجانب الأوكراني يحصل عليها من شركة "غازبروم"، لأن الأنابيب التي يضخ عبرها مملوكة لهذه الشركة. ومن هنا يعتبر الغاز غازاً روسياً. وقد اشترت أوكرانيا في العام 2012 أكثر من 32 مليار متر مكعب من الغاز الروسي. بيد أن حجم مشترياتها تراجع عام 2013 إلى 26 مليار متر مكعب. وبلغ حجم الغاز الطبيعي المورد إلى أوكرانيا خلال أعوام 2009 – 2014 (الربع الأول من عام 2014) 147.2 مليار متر مكعب. وكانت روسياوأوكرانيا قد وقعتا في 19 كانون الثاني يناير 2009 اتفاقيتين رئيسيتين: تتعلق الأولى ببيع الغاز لأوكرانيا، خلال الفترة بين 2009 و2019. وترتبط الثانية بالرسم المستحق على الغاز المار عبر الأراضي الأوكرانية إلى أوروبا. وفي كانون الثاني يناير 2014، وقع البلدان اتفاقية تكميلية، تنص على بيع الغاز الروسي بسعر 268.5 دولار لكل ألف متر مكعب، خلال الربع الأول من العام 2014. وفي نيسان أبريل 2014، قررت شركة غازبروم رفع سعر الغاز المباع لأوكرانيا إلى 386.5 دولاراً لكل ألف متر مكعب من الغاز، بعد إلغاء حسومات تم الاتفاق عليها في نهاية العام الماضي. ثم قامت روسيا بإلغاء تخفيضات أخرى بقيمة 100 دولار، كانت قد منحت لأوكرانيا بناء على اتفاقية خاركوف الموقعة بين البلدين عام 2010، مقابل مرابطة الأسطول الروسي في ميناء سيفاستوبل في البحر الأسود، ما عنى ارتفاع السعر إلى 485 دولار. وقال الروس إن المسألة الأساسية في أزمة الغاز تكمن في الدين الأوكراني، وعجز أوكرانيا عن تنفيذ التزاماتها، وغياب أي فرصة لإزالة هذا العجز مستقبلاً. وفي ضوء انسداد الأفق، حاول الأوكرانيون القيام بإعادة استيراد للغاز الروسي المصدر إلى أوروبا. بيد أن الروس أعلنوا معارضتهم لذلك. وعليه تمنع الأوروبيون عن التجاوب مع الطلب الأوكراني. الأزمة الراهنة قد أثارت مجدداً مخاوف أوروبا، فإمدادات الغاز الروسي إليها قد تتعرض لخطر كبير، في حال تفاقم التوتر الروسي الأوكراني، وقررت كييف منع الامدادات الروسية المتجهة عبر أراضيها إلى أوروبا. وقال المفوض الأوروبي لشؤون الطاقة، غونتر أوتينغر، إن هناك مخاوف من حدوث مشاكل في إمدادات الغاز إلى أوروبا في حال لم تقم أوكرانيا بملء مستودعات الترانزيت حتى فصل الشتاء القادم، كما تخوف من قيام أوكرانيا بسحب الغاز من المستودعات في باطن الأرض. ومن ناحيتها، سعت روسيا لتجاوز المرور بالأراضي الأوكرانية من خلال خطين من الأنابيب العملاقة في قاع البحر، يُعرف الأول بخط السيل الشمالي، والآخر بالسيل الجنوبي. يتألف خط السيل الجنوبي من أربعة أنابيب، قدرة كل منها 15.75 مليار متر مكعب من الغاز، ومن المقرر أن يتم البدء في إنشاء الأنبوب الأول من الخط في كانون الأول ديسمبر عام 2015، وأن يتمكن خط السيل الجنوبي من العمل بطاقته الكلية في عام 2018. من ناحيته، يستهدف خط "السيل الشمالي"، ضخ الغاز الروسي إلى دول شمال أوروبا، انطلاقاً من ألمانيا، حيث وجهته الأولى، وقد تدفق الغاز منه إلى الأسواق الأوروبية. وقد أثارت اتفاقية هذا الخط ردود فعل ساخطة في دول البلطيق، إذ رأت فيها صيغة جديدة "لمعاهدة مولوتوف – ريبنتروب" السوفياتية الألمانية لعام 1939. وهناك وفرة نسبية على صعيد الاحتياطات العالمية من الغاز الطبيعي، إلا أن صناعته، إنتاجاً وتصديراً، لا تتناسب مع حجم هذه الوفرة. وفي العام 2010، قدر حجم احتياطي الغاز الطبيعي العالمي ب 187,1 تريليون متر مكعب. وقد سيطر الشرق الأوسط ومناطق الاتحاد السوفياتي السابق (بما في ذلك روسيا) على 72% منه. ويتم تسعير الغاز إما عبر عقود طويلة الأمد بين البائع والمشتري، وإما مباشرة من خلال السوق. وفي الحالة الأولى، يقوم بعض المنتجين بربط سعر الغاز بالنفط. ويدفع المستهلكون في الوقت الراهن أسعاراً متفاوتة للوقود الأزرق، إن بسبب تباين مواقعهم من حقول الإنتاج أو مساهمتهم في تشييد الأنابيب، أو لاعتبارات أخرى. وكمثال، تشتري الصين الغاز من بعض دول آسيا الوسطى وفق أسعار تقل عن نصف أسعاره العالمية، مستفيدة من قدرتها على فتح طرق جديدة لصادرات هذه الدول بعيداً عن روسيا. وما يُمكن قوله خلاصة، هو أن أزمة الغاز بين روسياوأوكرانيا لا يُمكن أن تجد حلاً إلا في سياق سياسي كلي، وإن سوق الغاز الطبيعي، لم تعد قضية تجارية بحتة، بل هي مسألة جيوسياسية أيضاً.