منذ ثلاثة أسابيع وأنا أُعايش القلق الذي يلازمني كظلي بسبب مرض والدتي التي ترقد على السرير الأبيض متنقلة بين غرفة خاصة وغرفة العناية المركزة ICU لم أعرف هذا القلق بهذه الصورة الموجعة. ولم أعرف من قبل قدرة بعض الأوجاع النفسية وزخمها، وأنها في بعض الأحيان تفوق الأوجاع الجسدية. وأنا أعرف أن القلق هو حالة نفسية، لكنني لا أعرف أنه يتحول إلى حالة فسيولوجية تؤثر على صاحبها أشد ما يكون التأثير. هذه الأيام أتعايش مع شعور مركب إن جاز التعبير خليط من عدم الارتياح والخوف والتردد. على أنني في الوقت نفسه لم أستطع السيطرة على هذا الشعور المركب. ولا مراء أن حب الوالدين والتعلق بهما ثم مرضهما أو الخوف من فقدانهما يجعلان المرء في حالة تحفز مستمرة. وهذه مشكلة يعاني منها المسلم أكثر من غيره. هذا ما يقوله الطبيب المعالج لوالدتي، لكنني من جهة أخرى أعرف أن القلق مشكلة العصر الحديث، ومنذ دخلت والدتي المستشفى عرفت حالة مزاجية على نحو يختلف عما عهدته من الحالات المزاجية التي يمر بها الفرد ولا أستثي أحدًا، لأنه لا يوجد مخلوق – في عالم الإنسان وعالم الحيوان – لا يمر بحالة مزاجية مختلفة أو متناقضة على مدار الأربع والعشرين ساعة. والفرق يكمن في كيفية تعامل المرء مع حالات المزاج المختلفة. في حين ان القلق هو نتيجة لتهديدات لا يمكن السيطرة عليها أو لا يمكن تجنبها، وهذا ما برهنت عليه الأسابيع الثلاثة التي أعيشها الآن، وما أختزن في ذاكرتي من مطالعة مصادر علم النفس الإكلينيكي، إلاّ أنني لم أتوقع أن يكون القلق بهذه القسوة. ويعتبر القلق رد فعل طبيعي للضغوط. وهو قد يساعد أي شخص للتعامل مع الأوضاع الصعبة، ويدفعه لمواجهة ما يأتي به القدر. لكن عندما يصبح القلق خوفًا مفرطًا Panic attack فإنه قد يندرج تحت مرض القلق القاتل. وفي ظني أن الحساسية العالية تؤدي إلى القلق، وهذا ظن لا يغني من الحق شيئًا، لكنه ظن رأيتني أقبله، على أنني محتار أشد ما تكون الحيرة. وسبب هذه الحيرة انني لا أستطيع أن أسمي القلق الذي أعايشه هذه الأيام، ولم تنفعني معرفتي المتواضعة بعلم النفس. ولعل أقرب مسمى لما يقلقني هو: قلق فقدان الأم. لكن عليّ أن أقول إن القلق الذي أعايشه قد يندرج تحت ما يُعرف بالقلق العام Anxiety وهو شعور عام غامض غير سار بالتوقع والخوف والتحفز والتوتر مصحوب عادة ببعض الإحساسات الجسمية خاصة زيادة نشاط الجهاز العصبي اللاإرادي. ويأتي في نوبات متكررة. وتنشأ أعراض القلق العام من زيادة نشاط الجهاز العصبي اللاإرادي بنوعيه الثمبساوي والباراسمبثاوي، من ثم تزيد نسبة الأدرينالين والنورادرينالين في الدم من تنبيه الجهاز السمبثاوي فيرتفع ضغط الدم وتزيد ضربات القلب، وزيادة العرق وجفاف الحلق ورجفة الأطراف. وقد ناقشت الطبيب الذي يشرف على حالة والدتي فقال إن القلق المصاحب لمرض الوالدين أو الخوف من فقدانهما أو أحدهما لم تُفرد له مصادر علم النفس ما يستحق من أهمية، وسبب ذلك في ظنه هو أن علم النفس علم غربي بامتياز. وهو قال إن التعلق بالوالدين وصفة البر والخوف من فقدانهما من تراث الثقافة العربية الإسلامية، وليست بهذا الوضوح في الثقافة الغربية، حيث نشأ علم النفس وترعرع. لهذا يرى هذا الطبيب المثقف أن حالات كثيرة كاد القلق أن يقتل صاحبه بسبب تعلقه بوالديه تعلقاً لا يمكن أن تجده في الغرب بهذه الصفة. ولا مراء أن حب الوالدين والتعلق بهما ثم مرضهما أو الخوف من فقدانهما يجعلان المرء في حالة تحفز مستمرة. وهذه مشكلة يعاني منها المسلم أكثر من غيره. هذا ما يقوله الطبيب المعالج لوالدتي، لكنني من جهة أخرى أعرف أن القلق مشكلة العصر الحديث، ولا يختص به شعب دون آخر، وقد يتحول القلق إلى مرض عضوي، خصوصًا إذا كان من نوع الرعب الحاد Terror state، بل إن الدراسات الحديثة في أمريكا تُشير إلى أن ما نسبته 80% من الأمراض الجسدية سببها أمراض نفسية. هذا رقم مرعب. لكن لدينا نحن المسلمين دواء ناجح وهو قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) فنحن نستطيع أن نعالج القلق بذكر الله. فما بالي لا أستعين بوصفات قرآنية ونبوية للتخفيف مما أعانيه. الجواب يكمن في أنني أعد الصبر قساوة، ولست بقادر على الصبر، لكنني أستعين بمقولة لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه الله -:أفضل الصبر التصبر.