إذا كنت أحد المتذوقين للفن ويلفت انتباهك هذه اللوحات التي تحكي عن جمال الطبيعة أو لوحة لشخوص أو طبيعة صامته أو تحتوي اللوحة على مواضيع رومانسية أو رسالة اجتماعية أو بمعنى أدق أنك تميل في تذوقك وإعجابك باللوحات التي تتبع منهج "المحاكاة" أي أن الموضوع الفني يطابق ذلك النموذج الخارجي الذي يرسمه الفنان فأنت هنا تتذوق فنون ما قبل القرن التاسع عشر والتي توالت بعدها العديد من المستجدات والأساليب الفنية الحديثة التي نال بعضها من العامة أو الفنانين صنوف الهجوم والاستنكار. أما إذا كنت ممن يستمتعون برؤية عمل فني يستوقفك لمشاهدته ويثير فضولك لغرابة مضمونه الذي ربما لا يحتوي على مضمون بل انه مجرد مربع بمساحة لونية واحدة مسطحة وأنك أيضا من الذين يعتقدون أن اللوحة الفنية ليست بالضرورة أن تقدم رسالة إنسانية أو اجتماعية أو تعبر عن جمال بعينه حتى وإن كانت هذه اللوحة تجريدية فأنت هنا تتفق مع الفنان الروسي كازمير ماليفتش "Kasimir Malevich" الذي يعتقد أن اللوحة وجدت لكيان خاص بها لا يحتاج تعريفا أو مضمونا. ماليفتش الذي عشق الفن منذ أن كان مراهقا ويعيش ضمن ستة من الإخوة والأخوات علم نفسه منذ نعومة أظفاره الرسم، وفي عام 1904 م بعد أن حفظ مالا كافيا من وظيفته بالسكك الحديدية انتقل إلى "موسكو" لدراسة الفن بدوام كامل في مدرسة "فيدور ريبريج" حيث أنتج العديد من اللوحات الرمزية والتأثيرية وفي عام 1907م عرض جنبا إلى جنب مع مشاهير الفن بمعرض "جمعية فنانين موسكو" التي أكسبته شهرة واسعة في مجال الفنون ومع اطلاعه على فنون الغرب وتأثير الفن الفرنسي الذى نهل منه معرفة واسعة استطاع أن يلفت نظر النقاد والفنانين بعمله المشهور"سكين المطحنة 1912م" بأسلوب التكعيبية المستقبلية ومن هنا بدأت مدرسة فنية جديدة نشأت على يد ماليفتش وهي التفوقية أو السوبرماتية supermatism"" عام 1913 وليس بمستغرب أن نجد أن هذه اللوحات تصل قيمة كل واحدة منها في وقتنا الحالي إلى مليون دولار أمريكي ولكن لا بد من الإشارة هنا الى أن قبل انتقال ماليفتش إلى هذه المرحلة كان له عدة أعمال غالية الثمن والتي استخدم بها الألوان المبهرة مثل لوحة "بائعة الورد" التي رسمت عام 1903م، وفي عام 1913 تعرف كازمير على مجموعة من الفنانين والنقاد والشعراء والأدباء مما ولد لديه حسا فلسفيا ورؤية جديدة لا تخلو من الذاتية فكانت مسرحية الأوبرا "النصر فوق الشمس" مصدر الهام ثري استمد منه كازمير عددا من الرسومات المبدئية احتوت على تصاميم الأزياء التي استخدمت في المسرحية. ولعل هذه التقدمة المسهبة هي تمهيدا لمعرفة أن من أشهر لوحات الفنان كازمير مالفيتش هي لوحة "المربع الأسود" وهي بالفعل عبارة عن مربع أسود ملون على قماش أبيض مربع الشكل أيضا وعرضت لأول مرة في معرض "صفر إلى عشرة" بموسكو عام 1915م وتعد هذه اللوحة من أشهر الإبداعات في تاريخ روسيا الفني حيث من منطلقها بدأ اتجاها فنيا جديدا وهو المدرسة الطليعية الفنية الروسية ولعل أول مربع أسود ظهر لماليفتش كان في لوحته "المربع الأسود ضد الشمس" والتي أنتجها لأوبرا "النصر فوق الشمس" عام 1913م ومن ثم تلا ذلك ثلاث لوحات تحتوي كل منها على مربعات سوداء ففي عام 1923م ظهر عرض لمربع أسود آخر لماليفتش ومن ثم المربع الأسود الثالث ظهر في عام 1929م بقاعة "ترتيكوف" بموسكو والمربع الأسود الأخير عرض في لينينجراد عام 1932م ولكنه كان أصغر حجما من المربعات الأخرى وكان مرسوم بجانبه مربع آخر بلون أحمر. جميعها مربعات ولكنها تتغير في الأحجام وفي التقنيات على مر السنوات مربعات ماليفتش التي أخذت الشهرة وأصبحت منهجا للمدرسة الطليعية في وطنه لم ينظر لها المتذوق من منظور المساحة ولكنها التجريد الرمزي البسيط فالفراغ عند ماليفتش يمثل تأملا فكريا وتصويرا هندسيا بصيغة تعبيرية مجردة من أي عوامل مادية هي قيم حسية لا تفرد على الرأي عناصر مرئية ولكنها تحمل في مضمونها حرية الفكر للمتذوق وليس المعنى هنا هو التعقيد أو كما يقال "المعنى في بطن الشاعر" ولكن المربع في حد ذاته هو رمز لمواسم العام الأربعة وهو الشكل الذى يحمل أربع زوايا قائمة حازمة وهو المساحة التي تمنح فراغ أكبر غير معقد وغيره وقد ينظر له من منطلق حجمه ومدى تغير هذا الحجم في مربعات كازمير فقد تعني هذه المساحة السوداء الغالبة على المربع الأبيض خلفها مرحلة قاتمة ومعاناة تتغير وتتبدل على مر الأعوام مما يجعلنا الآن كمتذوقين أن نتجاوب مع الرمز والشكل والتجريد وهذه العوامل المعقدة لم يصل إليها كازمير إلا بعد دراسة ووعي وممارسة أخذت من سنوات حياته الكثير مما جعلنا الآن نستوعب المعنى الحقيقى لمربعات كازمير مالفيتش السوداء.