وكالعادة تبرأت أمانة جدة من مسؤوليتها تجاه حادثة سقوط دكتور الهندسة علي منشو وطفله رحمهما الله في أحد خزانات الصرف المفتوحة إهمالاً في أحد أهم شوارع جدة، وإن لم يتبرأ الدفاع المدني حتى الآن فحتما سيفعل لاحقاً، هذه هي النغمة التي اعتادت عليها أسماعنا، وتحددتْ من خلالها ثقافة المسؤولية، دون أن نستطيع أن نتقدم خطوة واحدة مع تكرار مثل هذه الحوادث التي تفوح منها رائحة الفساد والإهمال وغياب الضمير، أو سقوطه هو الآخر ليلقى حتفه في واحدة من حفر الوطن، التي يبدو أنها أصبحتْ بعدد مواطنيه، لتكون هي القبر الثاني لمن ينجو من مقابر حوادث السير. كنا ولا نزال بالكاد نتمالك أعصابنا ونحن نقود سياراتنا في شوارع بلادنا التي يسيطر عليها المتهورون، والذين أنجزوا لها أولوية دولية لا مرحباً بها، حيث تحتل المملكة موقعاً متقدماً في عدد وفيات حوادث المرور، وإذا بنا لا نأمن على أنفسنا وأطفالنا حتى ونحن نخرج للفسحة أو للتبضع من المراكز التجارية التي تنعكس أضواء النيون على واجهاتها الرخامية والزجاجية، بل لا نأمن حتى ونحن نهرب من زحام المدن إلى سعة الصحراء، حيث تظل حفر الموت تتربص بكل من يتحرك على قدمين، إذ لا مفر سواء كنت راكباً أو ماشياً، طالما أن روحاً واحدة من تلك الأرواح التي أزهقتْ في تلك المآسي لم تدفع ضميراً واحداً لأن يؤنّب صاحبه، لترتخي يده عن الإمساك بفنجان قهوته، ويندى لها جبينه، ليأخذ القلم ويكتب رسالة استقالته احتراماً لقيم أرض لا تزال تتردد في أفيائها أصداء عبارة الفاروق: "لو عثرتْ بغلة في سواد العراق لظننتُ أن الله سيسألني عنها"، وتقديراً على الأقل لقيمة المسؤولية الأخلاقية. غداً ستكبر لجين ذات العامين ونصف، وستدرك أن والدها وشقيقها ذهبا ضحية لهذه الصفحة السوداء التي لم يحن الأوان لطيها، ولن تجد أي قيمة عزاء في تنصل أجهزة الخدمات من مسؤولية اختطاف أعز أحبابها، فيما سنكتشف نحن كما حدث سلفاً مع لمى الروقي وغيرها أن تلك الفخاخ المنصوبة لن تطمرها التنصلات ، ولن تحكم تغطيتها لجان التحقيق التي تتشكل من الجهات التي تتجه إليها أصابع الاتهام، لنظل ندور في ذات الحلقة المفرغة إلى حين موعد الكارثة التالية. لقد ثبت بالدليل وبالممارسة وبالاستنتاج أن علة الترهل التي أصابت جهاز الخدمات، وعطلتْ قدرته على معالجة أخطائه، لم تعد تجدي معها حالة الاستنفار الموقت، التي تحاول امتصاص فورة الفاجعة حال وقوعها، لتستكين فيما بعد شيئاً فشيئاً إلى أن يطويها النسيان في الذهن الاجتماعي، لتبقى كطعنة في القلب في وجدان الأسرة المكلومة مدى الحياة، فتتفتتْ هذه القضايا بقطع حبل الذاكرة من هموم مجتمع إلى هموم شخصية لا تعني سوى أصحابها، مما يُعزز فرص تكرارها لاحقاً وبأشكال مختلفة. لذلك أنا أدعو إن كان هنالك من يسمعني إلى فتح الباب أمام قيام جمعيات أهلية طوعية متخصصة، تأخذ على عاتقها مهمة انعاش المسؤولية الاجتماعية، للمبادرة بردم عثرات أجهزة الخدمات ودرء المخاطر، والقيام بدور محامي الدفاع والمراقب أمام تلك الجهات لإخراجها من أسر المكاتب إلى فضاء الحركة اليومية، والاضطلاع بمهمة العين والذراع التطوعي الذي يهديها إلى مكامن الخطر لمحاصرته وتفاديه قبل وقوعه، وعندي من الثقة بشبابنا، ومن خلال التجربة، ما يُعزز كل فرص الحلول، لأن خوف المسؤول من الإدانة بالخطر المبلغ عنه مسبقاً، أكبر من خوفه بعد وقوعه والذي يستطيع أن يتبرأ منه بسطرين على لسان المتحدث الرسمي. أخيراً: تحية خاصة لشهامة العريف ياسر الغامدي من الدوريات الأمنية، ولشهامة المواطن اللذين عرّضا حياتهما للخطر في محاولات الإنقاذ.