احتل المكان في القصيدة العربية القديمة والحديثة حضوراً ساحقاً فَقَلّ أن تجد نصاً شعرياً لم يكن المكان حاضراً فيه برؤية عالية من الوعي، ذلك أن المكان يسيطر على روح الشاعر فيودعه جانباً هاماً في قوافيه، لما يشكله المكان من ذكرى لأيام ماضية اندرست وبقيت عالقة في ذهن الشاعر، ولا مشاحة أن الإنسان مجبول على حب المكان الذي يمثل له انتماءه وهُوُية، فالشعر الجاهلي حضرت فيه الأطلال والديار والمضارب بشكل كبير ومنذ ذلك الزمن استمر حضور المكان في غالبية القصائد عند طائفة من الشعراء، فكيف إذا كان المكان (مكةالمكرمة) حرسها الله؟ لاشك أنها ستكون أثيرة عند روح الشاعر وتلافيف ذاكرته وتستمطر أعذب قوافيه واليوم يصدر نادي مكة الثقافي الأدبي كتاباً في هذا الصدد وهو "مكةالمكرمة في عيون الشعراء العرب" للناقد الدكتور عبدالرزاق حسين. محمد حسن فقي طاهر زمخشري يقول في مقدمة الكتاب: من خلال استعراضي لهذا المعجم وغيره من فهارس المطبوعات، لم أجد مؤلفاً يتحدث عن مكة في الشعر في عصر واحد عدا العصور الأدبية من العصر الجاهلي وحتى العصر الحاضر، والأغرب من ذلك أن الدراسات التي قامت على أسس دينية واتجاهات إسلامية أو لعصور وبيئات الأدب لم تلتفت إلى مكة في الشعر، وإنما انصبت عنايتها على الحديث عن الشعر في مكة كوعاء أو بيئة، لذلك أخرجت هذا الكتاب الذي يليق بمكانة هذه المدينة الخالدة ويكون لي ذخراً وشرفاً. هذا وقد كسر المؤلف كتابه على خمس أقسام حيث تناول مكةالمكرمة في كل عصور الشعر ففي الشعر القديم يضّمن كتابه قصائد خالدة في العصور الجاهلية والإسلامية والأموي والعباسي ذاكراً أعداداً ضخمة من شعراء هذه العصور الذين ذكروا مكةالمكرمة في قصائدها تارة في مدائحها وتارة في فخرها وأخرى في الوصف وأيضاً في الحنين إليها. إلا أنها في العصر الوسيط راج الشعر الديني ولاسيما الشعر الصوفي وحرص الشعر على بث الروح الديني من خلال أشعارها بعد أن مر على دولة الإسلام ضعف بل شهد حروباً كثيرة تمثلت في الصراع بين المسلمين والصليبيين وكذلك الغزو المغولي ومن أبرز شعراء هذه المرحلة البوصيري وابن دقيق العيد وصفي الدين الحلي وابن نباتة المصري وعبدالرحيم البرعي والفيروز أبادي والباخرزي وابن عساكر وقطب الدين القسطلاني وغيرهم، في حين حضرت مكةالمكرمة في الشعر الحديث بكل ما تضمنه من أماكن تهفو إليها النفوس مثل الكعبة والمسجد الحرام والحطيم وكذلك جبالها وأوديتها وأهلها بل أوسعوها مدحاً لانتمائهم لها وافتخارهم بها وكان من أبرز شعراء هذه المرحلة: أحمد الغزاوي وفؤاد شاكر وحمزة شحاته ومحمد حسن فقي وحسين سرحان وعبدالله بلخير وإبراهيم فودة وآخرين فهذا الشاعر محمد حسن فقي ممن كتب قصائد خالدة في مكةالمكرمة والتي يقول في بعض أبياتها: حسن قرشي مكتي أنت لا جلال على الأرض يداني جلالها أو يفوق ما تبالين بالرشاقة والسحر فمعناك ساحر ورشيق سجت عنده فما ثمَّ جليل سواه أو مرموق ومشى الخلد في ركابك مختالاً يمد الجديد منه العتيق أنت عندي معشوقه ليس يخزي العشق منها ولا يفل العشيق إلا أن الشاعر حسن قرشي يصف محبوبته مكةالمكرمة فيقول فيها: تفتق عن راحتيها الصباح وشعشع في شفتيها القمر وأزهت بها الشمس فوق البطاح وجن بها الليل حلو الصور ويتذكر الشاعر أحمد قنديل شبابه فيها ويحمله أجمل ذكرى.. وأروع أيام: الشباب الذي قطفناه زهراً وقطعناه في العسيرة عمرا فيك يا مكة الحبيبة فينا لم يزل للنفوس أجمل ذكرى قد مشينا بين واديك يوماً فاق عاماً لدى سواكِ وشهرا لكن الشاعر طاهر زمخشري يتذكرها وهو بعيد عنها فتزيده هذه الذكرى إلتياعاً وهياماً فتغنى بهذه القصيدة الباذجة: أهيم بروحي على الرابيه وعند المطاف وفي المروتين وأهفو إلى ذِكَر غاليه لدى البيت والخيف والأخشبين فيهدر دمعي بمآقيه ويجري لظاه على الوجنتين ويصرخ شوقي بأعماقيه فأرسل من مقلتي دمعتين أمرغ خدي ببطحائه وألمس منه الثرى باليدين ويتتبع المؤلف مكةالمكرمة في كل أغراض الشعر وموضوعاته، فهذا الشاعر الأعشى يفاخر بها فيقول: فما أنت من أهل الحجون ولا الصفا ولا لك حق الشرب من ماء زمزم وهذا أبو طالب أيضاً يقول مفتخراً: وكان لنا حوض السقاية فيهم ونحن الكُدى من غالب الكواهل إلا أن مدح مكة قد اخذ عدة صور، لاسيما إذا اقترنت بممدوح فهذا الفرزدق يمدح علي زين العابدين بن الحسين حينما رآه بالحرم الشريف فقال: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقى النقي الطاهر العلم يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم وكذلك نجد خير الدين الزركلي يبدي اعجابه بإلغاء الملك عبدالعزيز للرسوم للتخفيف على الحجاج فيقول: منحت ضيوف الله في حج بيته فخف إلى أبواب مكة مُجْهَدُ رجعت بهم عبر القرون فأصبحوا يعلُّون ما علَّ النبي محمد إذا جاءها جار فأهلاً ومرحبا وفي ظلَّك الممدود نُزْلٌ مُمَهَّدُ ويحظى الوصف على طائفة من قوافي الشعراء لما حظيت به من قدسية ومكانة عالية عند الشعراء فمنهم من يصف حركة الحج كلامية أبي طالب بن عبدالمطلب وكذلك الشاعر عبدالرحيم البرعي الذي يصف وفود الحجيج وحركة طوافهم وسعيهم فيقول: وفي أم القرى قرت عيون عشية لاح زمزم والحطيمُ أولئك الوفد الله لاذوا إليه بفقرهم وهو الكريمُ وطافوا قادمين ببيت رب فتمَّ لهم طوافهم القدومُ وبين المروتين سعوا سبوعاً لكي يمحوا شقاءهم النعيم إلا أن مكةالمكرمة قد ورد ذكرها في جمهرة من قصائد الغزل منهم عمر بن أبي ربيعة الذي تردد أسمها في كثير من قصائده وكذلك مجنون ليلى وابن الرقيَّات وعروة ابن أذينة والعباس بن الأحنف وابن أبي حفصة ومن أبرز ما جاء في هذا الغرض ما قاله المجنون: أحجاج بيت الله في أي هودج وفي أي خدر من خدوركم قلبي أأبقى أسيرَ الحب في أرض غربة وحاديكم يحدو بقلبي في الركبِ أما الحنين إلى مكة فمثله مطولة لعمرو الجرهمي يسرد فيها ذكرياته الماتعة ولياليه المقمرة ومن أشهر أبياتها قوله: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامرُ بل يحن بلال بن رباح رضي الله عنه إلى مكة وهو في المدينةالمنورة فيقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بفخ وحولي أذخر وجليلُ ويعرج الدكتور عبدالرزاق إلى دور الشعر في أحداث مكة بدءاً من أول من سكنها طسم وقومه ثم جرهم وأتباعه ثم استولت عليها خزاعة حتى جاء قصي بن كلاب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيطر عليها في يوم يقال له يوم النكيف فصارت له حجابة البيت والرفادة والسقاية وقيادة مكة، ومن الأحداث الهامة عام الفيل وحلف الفضول وكذلك الهجرة للحبشة ومن أبرزها فتح مكة الذي قال فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء تظل جيادنا متمطرات تلطمهن بالخمر النساء لنا في كل يوم من معدِّ سباب أو قتال أو هجاء إضافة إلى الفتن التي أصابت مكةالمكرمة وما مسها من حوادث وكروب وحريق وسيول ومن أبرز هذه الفتن ما حل بها من القرامطة في حج عام (317ه). ويعقد الناقد عبدالرزاق حسين فصل اً كاملاً يودعه الخصائص والسمات الفنية من تشبيه وتمثيل ومعانٍ ومجانسة وأساليب واقتباس وتضمين وتصوير. ويختم المؤلف هذا الكتاب بفصل عن شعراء العشق المكي كالشريف الرضي والسيد علي بن معصوم وجار الله الزمخشري وابن جبير الأندلسي ويحيى الصرصري الذي صاغ أجمل قصائده في الشوق إلى مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة وعبدالرحيم البرعي الذي ولع الناس بشعره الذي يصور الشوق إلى أرض الرسالة السماوية ومنه: فقف المطيَّ ولو كلمحة ناظر بربا المحصب أو منىً يا حادي وأعد حديثك عن أباطح مكة وعن الفريق أرائح أم غادي ومسرة للناظرين بدت لنا ما بين سوق سويقة وجيادِ