قرأت في التسعينيات من القرن الماضي كتاباً بعنوان (عن طريق الخداع). مؤلفه ضابط متقاعد عمل في جهاز المخابرات الإسرائيلية. يفضح الكتاب الممارسات السيئة للموساد الإسرائيلي. أثار الكتاب زوبعة كبيرة في الغرب. مراجعات وانتقادات ومديح وتقريع.. الخ. سمعت أيضا أن الحكومة الإسرائيلية رفعت دعوى ضد الكاتب. لم يكن ذلك الكتاب هو الكتاب الوحيد الذي قرأته عن أجهزة المخابرات. ثمة كتب كثيرة عن أجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية والروسية. كل كتاب من هذه الكتب يتضمن أهوالا وفظائع وأعمالا يندى لها الجبين. لكن في النهاية لا تملك إلا أن تعجب بقدرات هذه الأجهزة وولاء العاملين فيها وإمكاناتها العجيبة على اختراق كل ما يقع بين السموات والأرض. عندما تتأمل في أي من هذه الكتب ستجد ثلاث نقاط أساسية. أولها هذا الجهاز لا يقهر. الثانية لا تخفى عليه خافية وكل الأحداث العالمية صغرت أم كبرت يكون له فيها حضور وتأثير. أخيرا رجاله يتسمون بالوطنية والإخلاص لعملهم حتى لو ارتكبوا أقسى الأعمال وحشية. عندما تأتي للأحداث الصريحة أو الحروب التي دخلت فيها إسرائيل أو أمريكا مثلا ستجد أن النجاح لم يكن حليفها في معظمها. حرب إسرائيل مع حزب الله أو حماس مثلا يفترض أن تكون حربا مخابراتية. فكلتا المنظمتين لا تتوفر لها قوة أرضية أو سلاح تقليدي ( دبابات أو مطارات أو قواعد عسكرية)، ومع ذلك تلجأ إسرائيل في حربها مع هاتين المنظمتين إلى جيشها التقليدي بينما الحل الحقيقي هو اختراقها وتحطيمها من الداخل. تضطر إسرائيل دائما أن تضرب وتخبط بشكل عشوائي رغم الضرر البالغ الذي ينالها على المستوى الأخلاقي. لا أرجع هذا الفعل إلى وحشية إسرائيل بقدر ما أرده إلى فشل مخابراتي. على أن أسارع وأقول لا يعني هذا أن إسرائيل وأمريكا وروسيا لا يملكون أجهزة مخابرات كبيرة وفعالة. ما اريد قوله يختصره المثل الشعبي الشهير (نصف الحرب دهولة). جزء كبير من الحروب يقوم على تحطيم معنويات العدو وزرع الضعف فيه وجعله يفكر بأنه أمام شيطان لا يقهر. إيمان العدو بقوتي هو نصف قوتي. ولكي لا يفرح بكلامي هذا المستهترون بأرواح الناس أسارع إلى القول وأؤكد أن استهتار العدو بقوتي هو نصف قوتي أيضا. بعض الكتاب يساهم في دعم هذه التوجهات. يعيدون فشل الأمريكان في القضاء على خصومهم بالمؤامرة. في أكثر من مناسبة قرأت أن الأمريكان قتلوا ابن لادن بعد أن انتهت صلاحياته والهوال منهم يصر أن ابن لادن مازال يعيش في أمريكا معززا مكرما.. الخ القصص التي تعطي المخابرات الدولية صفة الإله المطل على العالم مع كل النوافذ. قراءتنا للأحداث المعاصرة ملوثة بهذه الدعايات مضافا إليها عقول بعضنا المستقرة بشكل نهائي في العصور الوسطى. كل ما نعرفه عن تلك المنظمات العجيبة التي تدير العالم (الصهيونية والماسونية..) هي ثمرة قراءاتنا لكتب التهاويل الارتزاقية الصادرة في الغرب ككتاب (أحجار على رقعة الشطرنج) التي تدفع بهذه المنظمات إلى حد الأسطورة. والأسطورة كما لا يخفى على الجميع لعبتنا التي لا ينافسنا عليها إلا القليل.