كثيراً ما نرى أستوديوهات هوليوود الكبرى تتعاقد مع مخرجين أوروبيين بعد أن يلفتوا الأنظار في أعمالهم الأوروبية، وخاصة حين يصلون إلى ترشيحات الأوسكار. فقد شاهدنا للمخرج الألماني فلورين هينكل فون دونرسمارك مخرج فيلم "حياة الآخرين" "The Lives of Others" (2006)، بعد فوز فيلمه بجائزة الأوسكار، فيلماً أمريكياً بعنوان "السائح" "The Tourist" (2010) والذي كان متواضعاً وبعيداً عن المستوى الفني في الإخراج والقصة الذي كان يميز فيلم "حياة الآخرين". وهناك العديد من الأمثلة لمخرجين ابتلعت هوليود مهاراتهم الفنية وخرجوا بشكل مختلف تماماً عما كانوا عليه في أفلامهم الأوروبية التي لم تكن مشغولة بالهمّ التجاري, فاللمسة الخاصة للفيلم الأول للمخرجة الدانماركية سوزان بير "After The Wedding "، الذي رشح للأوسكار عام (2006)، كمثال آخر، اختفت في أفلامها التي تلته. ولذلك فهناك تحفظ حيال مشاهدة العمل الأمريكي الأول لأحد المخرجين الأوروبيين، ولكن مؤخراً عرض في مهرجان تورنتو الفيلم الأميركي الأول للمخرج البلجيكي مايكل أر روسكام والذي كان فيلمه البلجيكي "Bullhead" قد رشح لجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 2011. ويمكن القول أن فيلم "The Drop"، وهو فيلم روسكام الجديد، قد حافظ إلى حد بعيد على مستواه الفني في فيلمه السابق، وقد ساعده على هذا اعتماده على مدير تصويره السابق المبدع نيكولاس كاراكاتسينس. يدور الفيلم حول حانة في بروكلين تعمل كغطاء كما هي حانات كثيرة حيث يتم فيها تسليم أموال ناتجة عن عمليات غير قانونية، ولذلك فعنوان الفيلم يعني "شق صغير ضيق يهوي فيه الشيء إلى القاع"، وهو ما نراه يتكرر في عدة مشاهد حيث يتم إسقاط المبالغ المستلمة في هذا الشق. بالطبع هذه الحانات هي ملك لعصابات والحانة التي تدور فيها أحداث الفيلم هي ملك لرئيس عصابة شيشانية يبدو أنه لا يرحم (يقوم بدوره الممثل الأمريكي مايكل أرنوف). أما بطل الفيلم، والذي نسمع في البداية تعليقه الصوتي في تقديم الغرض من وجود الحانة التي يعمل فيها، فهو بوب (الممثل البريطاني توم هاردي)، والذي يبدو رقيقاً وساذجاً بطريقة تجعل المشاهد يتساءل عن كيفية وجود شخص كهذا في هذا العالم. المخرج مايكل أر روسكام نعرف تدريجياً أنه لم يغادر بيت أبيه وأمه أبداً حتى بعد وفاتهما، وأن من يدير الحانة هو ابن عمه مارف (الراحل جيمس غاندولفيني) الذي كان يملك الحانة واضطر منذ عدة سنوات لبيعها للعصابة الشيشانية، ولذلك فهو يشعر بالقهر والغيظ، وقد عبر غاندولفيني عن هذه المشاعر المكبوتة بشكل رائع. يكتشف بوب كلباً في برميل زبالة جارته نادية (الممثلة السويدية نومي راباس)، وهو الحدث الذي يجر وراءه أحداثا كثيرة وأولها ظهور أيريك ديدس (الممثل البلجيكي ماتياس شونارتس)، وبشكل متقاطع مع حادثة اكتشاف الكلب تتعرض الحانة لسرقة وتبدأ الشرطة التحقيق في السرقة والتحري عن حادثة قتل في نفس الوقت. يمكن تصنيف الفيلم بأنه ينتمي إلى أفلام النوار الجديدة (Neo-Noir). وكلمة نوار الفرنسية هو مصطلح سينمائي أطلق للتعبير عن أفلام الجريمة الدرامية في الأربعينات والخمسينات، والتي اعتمدت أسلوباً فنياً خاصاً وعبرت عن مواقف ساخرة واعتمدت الدوافع الجنسية كجزء من أسباب الجريمة. وقد اشتهرت هذه الأفلام بطريقة معينة في الإضاءة واستخدام الظل والتي استمدتها هذه الأفلام من التصوير في الأفلام الألمانية التي تنتمي إلى المدرسة التعبيرية. أما أفلام النوار الجديدة, فهي تستخدم بعضاً من هذه العناصر ولكن بطريقة جديدة وبأسلوب أكثر حداثة. وفيلم "The Drop" هو مثال جيد على أفلام النوار الجديدة، باللون الرصاصي الغالب على مشاهد الفيلم، وهو أيضاً اختيار ذكي للتعبير عن شخصيات الفيلم التي تبدأ واضحة السواد والبياض ثم يتمازج اللونان بشكل كبير في النهاية، وهناك الإيقاع الهادئ الحذر والشخصيات المعقدة. كاتب الفيلم هو الروائي دينيس ليهان والذي اقتبسه عن قصته القصيرة "Animal Rescue". والجدير بالذكر أن دينيس ليهان هو صاحب روايات تحولت إلى أفلام شهيرة مثل "Mystic River" (2003) و Shutter Island"" (2010) ولكن "The Drop" لا يصل بمستوى النص والحبكة لأحد هذين الفيلمين ولكنه يظل فيلماً جديراً بالمشاهدة.