لا يمكن أن يمرّ أحدنا على مذكّرات شاعرٍ ما أو شهاداته في الوجود دون أن يقف من حالاته وتقلباته وتصاريف الأيام لا الكلمات فيه، فحالة القصيدة التي تتجلى على هيئة غربةٍ في هذا العصر، انكفأت أحيانا على الذكرى كمدينةٍ اكتفت بساكنيها وشغلت زائريها دائما، أو على النبوءة حينما تدرك ما لا يفهمه الأصدقاء ولا تتوخّاه الظنون، أو باليومي الذي باء بغضبٍ من الأحداث وصناعة الموت، تلك الغربة يمتلئ بها الشعراء كآبة وعزلةً وموتًا مؤجلا.. فهل هي عقوبة التواصل مع الوجود بذنب محاولة اكتشافه؟ وهل يترك الشعراء مالهم لما عليهم حينما يعتنقون العاديّة، فيحملون الخبز لأطفالهم في الظهيرة ويستعينون على تربيتهم بالصراخ؟! قليلٌ من الشعراء لايحتفلون أو يحاولون إلا بساعات شعرهم ثم ينصرفون في مناكب أيامهم كي يبلغوا الحياة، لكنّ أكثرهم لا يخرجون من شاعريتهم إلا مرغمين ولا يدخلون عاديّتهم إلا متثاقلين، لهذا يعبسون في وجه الرتابة ويتكاسلون عن مقاربات أحلامهم للواقع.. أحيانًا أتساءل هل حالة الشعر انفصامية المبدأ، فوضوية المعتقد؟.. هل ينخلع الشاعر عن ذاته حينما تخلو به ويخلو بها؟ وهل يحلو له المقام معها في مدينة الحلم التي يسكنها كلما سكنته القصيدة؟ هل الشعر حالة انفصامٍ توارثتها التواريخ وتواترتها الروايات؟ كل ما ورد أعلاه أسئلة لا أعتني بالإجابة عليها ولا أطرحها إلا ظلاًّ آخر لي حينما انتميتُ إلى قبيلة الشعراء كما شاء الآخرون حولي.. لكنني حتما حين أطرحها فأنا أبحث عمن يعيد صياغتها على شكل حياةٍ لاتبدأ بالقصيدة ولا تكتفي بالتأبين..!