لقد كان حضور الزوجة في الشعر العربي تغييبًا لها -كما بدا ذلك في بعض نماذجه التي أشرت لها في الحلقتين الماضيتين- فهي تحضر مغيبة، أو تحضر حين يغيب الشاعر، وهو في أثناء ذلك يستحضر معها عذابات جديدة، بحيث لا تخلص القصيدة لها، حتى عند التحديثيين من الشعراء، وقد أشرت سابقًا إلى عراب القصيدة الحديثة “السياب”، وموقفه العنيف منها، وسيظل الغياب سمة محفزة على البوح الشعري، واستحضار الزوجة الملاذ والخلاص.. يقول علي الدميني مرسلًا آهاته من “عليشة” إلى زوجته “أم عادل” في قصيدة تحمل الغياب منذ عنوانها: “نهر الغياب”: يا أم عادل يا صبحًا أهش به كآبة السجن والآلام في بدني أشرعت بابي على الأحباب فانهدمت معابد الشوق في عمري بلا ثمن واستوحش القلب من صمت الأحبة من مناهم مثلما الأحجار في البدن ورحت أسأل هل صوتي به صمم أم أن ربعي مضوا للشام أو عدن ثم يقول: أغلقت بابي على بابي فحط به وجه الحبيبة ملهوفًا يعانقني يا فوز يا رفة الأفلاك، يا شجرًا يخط في الأرض ما أهواه من سنني إن القصيدة بوح عتابي غارق في الصدق والألم، حينما يتخلى الأصدقاء ويتخاذلون عن دورهم الحقيقي في أحلك المواقف وأصعبها، حين يكون الغياب بكل ألمه ومعاناته، وهو في ذات الوقت صوت يفضح الادعاءات والتنظيرات الكاذبة، التي لا يتجاوز الإيمان بها حناجر المتوارين خلف تنظيراتهم المزيفة، المتقاعسين عن الفعل، الذي لا أظنه يتجاوز رغبة الشاعر في زيارة أو سؤال.. إن الزوجة تحضر في بدء القصيدة، حضورًا مشعًّا متألقًا: طلي على نصف وقتي إنني ثمل بالفقد، مستوحش من ذا ينادمني ومن يلم على الذكرى ملابسنا ومن سيشرب في الظلماء من شجني(1) لكنها تتحول بعد ذلك لتكون مستمعًا للشكوى، ومستودعًا للألم، وبث الشجون، وهي الآهات التي أرسلها “الدميني” ولأمر ما فقد أرسلها الشاعر الغارق في التحديث الشعري، عبر اختياره وعاء “القصيدة التقليدية”؛ لتحمل قصيدته لزوجه الوفي، وربما كان لذلك دلالته المستوحاة من العقل الباطن الذي ترسّخ النموذج النسقي فيه، وإن كان يجيد كثيرًا التخلص منه، كما تخلص منه إلى الشكل الحديث حين اعترته ذكرى الشامية التي استحضر لفتنتها، الصورة، والرمز، والتكثيف الموغل في عذوبته، وهما قصيدتان في الديوان ذاته. لقد استحضر في جمالية بالغة “ابن حزم” وشكا إليه عدم قدرة المجتمع ونظامه على انضمام “الشامية” إلى دفتر الأحوال، لتكون “أم عادل جديدة” أخرى، تتحول فيما بعد إلى زوجة تغيب، أو تُغيب، وفق قانون الشاعر العربي الموغل تحديثًا، والموغل أيضًا في وفائه لنظرة أجداده الشعراء: نحتاج أن نفنى طويلًا في دنان الحب، يا شيخي، لنبلغ سدرة الأفعال: أن نتبادل المعنى على الكفين، أن نتذكر الذكرى التي كنا وضعنا خبزها في أول التنور، لم تنضج بما يكفي لميلاد “البنين” ولم ير التقويم صورتها غلافًا لائقًا بالوقت، لم يقبل بسحنتها “جنون” الأهل، أو تدخل ببسمتها الشهية “دفتر الأحوال”.(2) هل فاءت القصيدة الحديثة، وخرجت لتعلن تغيّرًا نوعيًّا لما ألفه الشعر من غياب للزوجة في الشعر العربي القديم، هل تمكّن محمّد الثبيتي من أن يفي بوعده الذي اقتطعه على نفسه منذ “عاشقة الزمن الوردي” حين أعلن ملله من الشعر المكرور منذ “أبي الوليد وعنترة وكعب”: نريد الشعر أن ينزل إلينا يمارس بين أعيننا العبادة ثم يقول: ولا يغضب إذا ما قيل يومًا بنات الشعر مارسن الولادة صبغن شفاههن بألف لون وألغين الخلاخل والقلادة وارتدن الفنادق والمقاهي ورافقن الطبيب إلى العيادة فهل استطاع الشعر الحديث بكل ألوانه أن يتجاوز القديم، ويقدم رؤية جديدة للزوجة تقوم على رفض غيابها الظالم تاريخيًّا، مولدًا لها رؤية جديدة تمنحها حقّها، ضمن خطاب شعري تدثر بصفات الإنسانية، وحقوقها الضائعة، لقد كان “الثبيتي” عنيدًا مع المرأة، ذا نفس عروبي خالص، يتركها حينما تتبدل أو تتغير، غير آسف ولا ندمان: كبقايا الوحل أنت كالمياه الآسنة كطريق قبعت فيه الطيور المنتنة (1) ولذا فهو يرفضها تمامًا: فيك إصرار وفينا كبرياء فافعلي ما شئت نفعل ما نشاء واملأي دنياك سخفًا تافهًا نملأ الآفاق شعرًا وغناء (2) وهو رفض يأتي بعد أن يعلن أنه يأتي إليها سريعًا، وهي الحالة التاريخية التي يعيد الثبيتي إنتاجها من خلال القصيدة الحديثة: أجيء إليك.. مخبا مخبا أجيء إليك ولي بين .... بيتا وحبا وماء وعشبا أجيء إليك مللت حياد الظروف مللت الوقوف(1) إن “الثبيتي” يهدي ديوانه “تهجيت حلما تهجيت وهما” إلى ابنيه “يوسف ونزار”، ويهدي ديوانه التضاريس إلى ابنته “هوازن”، ويهدي مجموعته الكاملة وبخط يده الجميل قائلًا: “إلى صاحبتي”(2) وتبدو الدلالة واضحة أن الإهداء يتجه إلى زوجه؛ إذا ما أخذنا بالبعد الدلالي اللغوي للكلمة، لكن السياق الذي ترد فيه في القرآن الكريم، يشير إلى بعد الغياب أيضًا، فالصاحبة ترد في القرآن الكريم، في لحظات حرجة، تنتهي فيها كل علاقات الحب تمامًا، ويعود الإنسان إلى درك من الأنانية والذاتية المفرطة: (يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئذٍ بِبَنِيْهِ * وصَاحِبَتِهِ وأخِيْهِ) [المعارج: 11 – 12]، وهو المعنى ذاته الذي يرد في آية أخرى في قوله تعالى: ( يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أخِيْهِ * وأُمِّهِ وأبِيْهِ * وصَاحِبَتِهِ وبَنِيْهِ)[عبس: 34 – 36]، إنها لحظات الافتراق والهروب، التي تحضر فيها الصاحبة هنا، وهي معان ضاجة بالهروب، والأنانية، والخوف! ومع كل هذا الغياب الضارب بكنفه على الشعر العربي، فإن هناك من الاستثناءات الفنية ما يثبت هذه القاعدة المؤلمة، عبر نماذج تاريخية متميزة (1)، ربما كان من أحدثها ما صنعه محمد جبر الحربي في قصيدته “خديجة” حيث جاءت صوتًا محمّلًا بالوفاء، والعشق، والإعجاب.. لقد جاءت “خديجة” عند الحربي استثناءً باذخًا، وتحولًا مهمًا في النص الشعري، حضرت “خديجة” الزوجة، وهي تنعم بالحياة والحب، جاءت نماءً وحياة للمتعبين! طلعت خديجة كما يرى “الحربي” تغييرًا للحياة إلى أفق من الضياء والنماء: جاءت فتاة الليل من صبح الهواء فأسفرت دخلت على الأطفال موالًا، ومالت للحديث فأزهرت قرأت كتاب الله وانتثرت على الكلمات دفئًا أسمرا قمرا على وجع القمر إنها “خديجة” التي تتجاوز حتى يكون الحديث عنها لوحة موارة بالحب، والعشق، ومتنفسًا للحديث عن التغيير، الذي يمكن أن يحدثه الحب، أمام قسوة القرى، وظلم المدن وأنّات المتعبين والمتعبات! جاءت تحاور التاريخ وتساءل الأوطان، وتصرخ ضد وجع الإنسان وغربته، وضياع قضاياه، وهي المعشوقة الصادقة، إنها “حذام” الحربي: طلعت خديجة من تفاصيل الهواء فأشرقت ونمت على يدها القرى ونما الهوى أبدًا وما كذب الهوى كلا وما كذبت تراتيل القرى (2). لقد كتب الحربي نصه خلال عام كامل، قائلًا: “فقد أحببت خديجة، خديجة الفعل (2)”. وأقول هنا: أين “خديجات” الشعراء الآخرين...؟ هل الرجل ناكر إلى هذا الحد؟ وهل تلك طبعة عربية خاصة، أم أنها حالة إنسانية شاملة؟ هل يكون الموت أو الطلاق هو طريق زوجة الشاعر العربي إلى الحضور في شعره؟ وهل ثمة من أمل في كسر هذا الإرث الظالم والقفز عليه! لم أخفق التحديث الشعري في أن يتجاوز ذلك، رغم كل وعوده وأمانيه؟! إنها أسئلة جديرة بالطرح والتأمل! ----------- الهوامش: (1) ديوان «مثلما نفتح الباب»، ص 41 وما بعدها. (2) مثلما نفتح الباب، ص 1. وما بعدها. (1) ديوان محمد الثبيتي، المجموعة الكاملة: عاشقة الزمن الوردي، ص 273 (2) السابق، ص 283 (1) ديوان محمد الثبيتي، المجموعة الكاملة، ديوان: تهجيت حلما تهجيت وهما، ص 153-154 (2) راجع على التوالي في مجموعته الصفحات:133-1.7-5 (1) هناك نماذج تحضر في هذا الميدان، قديمًا وحديثًا، وربما كان الأجدر الحديث عنها في ورقة أخرى. (2) ديوان «خديجة» ص 75 وما بعدها. (2) الكتابة ضد الكتابة، ص 109 ------------------ المراجع: • الأعمال الكاملة، محمد الثبيتي، الأولى، حائل ، نادي حائل الأدبي، ودار الانتشار العربي، بيروت، 2009م • تاريخ الأدب العربي، د. ريجيس بلاشير، ترجمة: د. إبراهيم الكيلاني، الثانية، دمشق: دار الفكر، بيروت: ودار الفكر المعاصر، 1404ه 1984م • تأنيث القصيدة والقارئ المختلف، عبدالله محمد الغذامي، الثانية، الدارالبيضاء، 2005م. • حديث الأربعاء، طه حسين، الرابعة عشرة، القاهرة، دار المعارف، بدون. • “أأرحل قبلك أم ترحلين”، عبدالله بن إدريس، الأولى، الرياض، مكتبة العبيكان ،1431ه 2010م • “مثلما نفتح الباب”، علي الدميني، بدون، بدون، بدون، 1429ه. • “خديجة”، محمد جبر الحربي، الثانية، بيروت، دار الكنوز الأدبية، 2004م • ديوان الفرزدق، شرحه وقدم له: علي فاعور، الأولى، بيروت، دار الكتب العلمية، 1407ه/ 1987م • ديوان بدر شاكر السياب، بدون، بيروت، دار العودة ، 1989م • ديوان جرير، شرحه وقدم له: مهدي محمد ناصر الدين، الثانية، بيروت، دار الكتب العلمية، 1412ه /1992م • الساق على الساق في ما هو الفارياق، أحمد فارس الشديق، قدم له: الشيخ نسيب الخازن، بدون ط،بيروت،دار الحياة، بدون ت. • سيرة شعرية، غازي القصيبي، الأولى، تهامة، جدة ،1400ه 1980م • سيكولوجيا العلاقات الجنسية، ثيودور رايك، ترجمة: ثائر ديب ،الأولى، دمشق، دار المدى للثقافة ،2005م • صحيح البخاري، أبو عبدالله إسماعيل البخاري، الرياض، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد وكالة الوزارة لشؤون المطبوعات والنشر، دار السلام للنشر والتوزيع، الثانية، ذو الحجة 1419ه / مارس 1999م. • صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، الرياض، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد وكالة الوزارة لشؤون المطبوعات والنشر، دار السلام للنشر والتوزيع، الأولى ، ربيع الأول 1419ه - 1998م. • عمر بهاء الدين الأميري، شاعر الإنسانية المؤمنة، الأولى، جازان، نادي جازان الأدبي، سلسلة الرسائل الجامعية، 1427ه • العودة سائحًا إلى كاليفورنيا، غازي القصيبي ،الأولى، دار الصافي، الرياض ،1410ه • الكتابة ضد الكتابة، د. عبدالله الغذامي، الأولى، بيروت، دار الآداب، 1991م • مجلة الآطام، دورية ثقافية يصدرها: نادي المدينةالمنورة الأدبي. • المرأة واللغة، عبدالله الغذامي، الثانية، الدارالبيضاء، المركز الثقافي العربي، 1997م