كان من العناوين التي استرعت انتباهي، مثلما قد تسترعي انتباه غيري: "الفلسفة في الوقت الحاضر". وكان صغر حجم الكتاب (104 صفحات) باعثاً على عدم التردد في الاقتناء لقراءة سريعة. لكن صغر الحجم أو مستصغره كان من مستصغر الشرر، كما يقول الشاعر. فالكتيب الصغير تضمن حواراً صعباً استغرقت كل صفحة منه تقريباً الكثير من الوقت. كان حواراً بين فيلسوفين وُضع اسماهما بخط أعرض من القضية المطروحة، لأسباب تجارية واضحة، فهما اسمان معروفان في المشهد الثقافي الغربي إجمالاً وقادران من ثم على اجتذاب القراء: باديو وجيجيك. ومن المؤكد أن كلا الاسمين لن يستثيرا لا ذاكرة ولا شهية لدى الكثير من القراء العرب، فليس أي منهما مطروحاً في المترجمات العربية بما يكفي لشد الانتباه. الحديث عن الفيلسوفين قد يستغرق معظم هذه المقالة إن أنا استرسلت فيه، لذلك سأكتفي بتعريف قصير يجعل لكونهما طرفي الحوار أهمية تضاف إلى أهمية القضية المطروحة. أما باديو Badiou فهو فيلسوف فرنسي (1937-) وأستاذ الفلسفة المتقاعد بالإيكول نورمال سوبيريور بباريس، وهذه "الإيكول" أو "المدرسة" مثل الإم آي تي أو هارفارد في أمريكا، قمة من قمم التعليم العالي الفرنسي، أسسها نابليون وافتُتح مبناها الحالي بحضور فيكتور هوغو. وآلان باديو علم من أعلام الفلسفة الأوروبية المعاصرة، مفكر يساري عرف بأطروحاته الغائرة في لحمة الجدل الفلسفي وقضاياه مما لا يتسع المجال للتفصيل فيه هنا. أما جيجيك، فهو سلافوي جيجيك Slavoji Zizek، فيلسوف سلوفيني (1949-) يعمل في معهد علم الاجتماع والفلسفة بجامعة ليوبليانا بسلوفينيا وفي معاهد أوروبية أخرى. وهو أيضاً مفكر يساري إلى جانب كونه محللاً نفسياً وناقداً ثقافياً. وهو لا يقل عن باديو شهرة وتأثيراً في كل مكان يحاضر فيه أو يناقش. لكن الاثنين يقفان طرفي نقيض في بعض مواقفهما، والأطرف من ذلك في طريقة حديثهما وهيئتهما في الحديث ولهما تسجيلات كثيرة على اليوتيوب في حوارات مختلفة ليس من بينها الحوار الذي أتحدث عنه هنا. فبينما يتسم باديو بالهدوء والأناقة نجد جيجيك أقرب إلى الهيبيين بشعره المهلهل وبنطلونه الجينز وتي شيرته البسيط وحركاته التي تنم عن "فرط حركة شديد". ولعل في ذلك ما يغري بقراءة سيميائية قد تربط ما بين الشخصية والفكر. لكن هذا ليس موضوعنا على أية حال. الحوار – الذي سأضطر لضيق المساحة إلى عرضه والتعليق عليه في أكثر من مقالة – عقد في فيينا برعاية المعهدين الثقافي الفرنسي والعلمي السلوفيني هناك ونشر بالألمانية عام 2005 ثم نشر بالإنجليزية عام 2009. يتحدث باديو في البدء مشيراً إلى القضية موضوع الحوار: "الليلة نسأل أنفسنا: إلى أي حد تتدخل الفلسفة في الحاضر، في المساءل التاريخية والسياسية؟ وفي النهاية ما نوع ذلك التدخل؟ لماذا قد يطلب من الفيلسوف التدخل في قضايا تمس الحاضر؟ وفي نهاية المطاف، ما طبيعة ذلك التدخل؟ ولماذا يطلب من الفيلسوف التدخل في قضايا تمس ما هو آني؟" ثم يعبر باديو عن انتقاده لمبدأ أن يطلب من الفيلسوف أن يتحدث في كل شيء كمن يسميهم فلاسفة التلفزيون المستعدين للتنظير في كل قضية تطرأ. لكن هل يعنى كلام باديو أنه ضد تدخل الفيلسوف في القضايا التي تمس الحياة اليومية أو الطارئة؟ يتضح أن هذا ليس ما يراه الفيلسوف الفرنسي. يقول: "الفيلسوف الحقيقي هو ذلك الذي يقرر بنفسه ما هي المشكلات المهمة، هو الذي يقترح المشكلات للجميع. الفلسفة هي أولاً وقبل كل شيء اختراع المشاكل". وبالطبع فإن المقصود هنا ليس خلق مشكلات من لاشيء أو خلقها حباً فيها. ما يقصده باديو هو أن قراءة الفيلسوف للأوضاع المحيطة به تجعله يدرك وجود مشاكل حيث لا يرى الآخرون شيئاً. فهو يوجدها حيث لا يظن أنها موجودة، بمعنى أنه يؤشكل المسائل أو الحالات التي تبدو سهلة وهادئة ومنسجمة في حين أنها تنطوي على مشاكل أو قضايا شائكة تحتاج إلى تأمل ومعرفة. ولكي يوضح باديو ما يقصده بذلك يطرح مفهوماً يسميه "الوضع الفلسفي" أو "الحالة الفلسفية". "أشياء كثيرة تحدث في العالم ولكن ليست كلها أوضاع للفلسفة، أو أوضاع فلسفية". ثم يضرب لذلك ثلاثة أمثلة استلها من إحدى محاورات أفلاطون، ومن حادثة موت أرخميدس، ومن فيلم ياباني. سأكتفي هنا بعرض المثالين الأول والثاني، لضيق المساحة، لأنتقل بعد ذلك لما قاله الفيلسوف الآخر، جيجيك (في المقالة التالية). المثال مستل من محاورة "غورجياس" حيث يتحاور سقراط مع كاليكليس، وهو أحد تلامذة سقراط، حول مسألة هل الحق تصنعه القوة أم يصنعه العدل؟ يرى كاليكليس أن القوة هي الحق، أي إن من يملك القوة هو الذي يصنع الحق، من زاوية براغماتية عملية: الناس ترى القوي على حق، فلا مجال لعدالة أو قيم أخرى. ذلك هو حال العالم، كما يرى كاليكليس. بينما يجادل سقراط من الموقع المناقض، أي إن الحق، المرادف للسعادة، يأتي مع العدل لا مع القوة. ويرى باديو أن الموقفين المعروضين هنا ليسا مما يمكن الجدال حوله، فالعدالة بمعنى العنف أو القوة تختلف جذرياً عن العدالة بوصفها فكرة، فهما موقفان متعارضان أو متناقضان، بينهما مجابهة لا حوارا. وما يؤدي إليه ذلك هو أن أحد طرفي المجابهة سيفوز والآخر سيهزم، وأن ثمة اختياراً. وما يحدث في المحاورة التي كتبها أفلاطون هو أن سقراط، كالعادة، ينتصر على مناوئه، ليجلس كاليكليس في إحدى الزوايا صامتاً ومهزوماً. فما دور الفلسفة هنا؟ يقول باديو إن دور الفلسفة هو في توضيح حالة الاختيار تلك، توضيح الموقفين وما يتطلبانه من اختيار أحدهما على الآخر. "المهمة الوحيدة للفلسفة هي أن ترينا أننا لابد أن نختار. لابد أن نختار أحد نوعي التفكير، إما أن نكون مع سقراط أو مع كاليكليس". وهذا يعني أن دور الفلسفة ليس في اختيار أو اتخاذ موقف وإنما في توضيح موقف. والدور نفسه هو ما ينبغي أن تقوم به في المثال الثاني الذي يأتي به باديو، لكنه ليس مستمداً من تاريخ الفلسفة وإنما من حكاية عن فيلسوف هي أقرب إلى الأساطير. المثال يروي قصة الفيلسوف وعالم الرياضيات أرخميديس اليوناني المنتمي إلى جزيرة صقلية حين غزا الرومان تلك الجزيرة ضمن اجتياحهم لليونان وقضائهم على ازدهارها. كان أرخميديس جالساً على الشاطئ يرسم المثلثات والدوائر حين أتاه جندي بعثه القائد الروماني ليحضره رغبة من القائد في معرفة الفكر اليوناني لدى ذلك العبقري. جاء الجندي وأمر أرخميديس بالذهاب معه، فلم يدر له الفيلسوف بالاً، فكرر عليه الأمر أكثر من مرة ثم نبهه إلى أنه في حالة عصيان لأمر القائد، لكن أرخميديس اكتفى بأن قال له انتظر حتى أنهي إثبات هذه المسألة، فما كان من الجندي إلا أن ضربه بالسيف فقتله. تلك، كما يقول باديو، حالة أخرى من حالة المجابهة بين الفكر والقوة. لا حوار بينهما وإنما تعارض ومجابهة، ومهمة الفلسفة هي في النظر في ذلك التعارض، تسليط الضوء على التناقض بين القوة الغاشمة وبين الفكر الرياضي الخالص حيث لا نقاش أو حوار وإنما مواجهة وتناقض، والفيلسوف هو من ينظر في ذلك التعارض ويظهر طبيعته واشتباكاته ودلالاته. ولاشك أن إظهار تلك الدلالات هو ما يقصده باديو بخلق المشكلات حيث لايبدو أنها موجودة. خلقها أفلاطون في محاورته، ثم خلقها، أو وضحها، باديو نفسه في موقف الجندي وأرخميدس. فباديو، بتعبير آخر، يخلق مشكلة حيث لا يبدو أن ثمة مشكلة. هو لا يقول ذلك، لكنه ما يمكننا استنباطه من قراءة المثال. لكن الفيلسوف الفرنسي لا يكتفي بالأمثلة الثلاثة التي عرضت لاثنين منها، وإنما يفصل في مناقشته لموقف الفلسفة تجاه القضية المطروحة. ومع ذلك فأنا مضطر للاكتفاء بما عرضت له في مناقشته لأنظر في الاتجاه الآخر حيث يتحدث السلوفيني جيجيك في المقالة القادمة.