دأب كثير من المتحمسين، وأغلبهم من الوعاظ الذين لم يؤتوا بسطة في العلم، على رمي من يختلفون معهم في الرأي بأنهم "منافقون". وهم إذ يلجأون إلى هذه التهمة، فإنهم إنما يحاولون أن يهربوا لفظياً، أو هكذا يخيل إليهم، من التكفير الصريح. وإذا أنكرتَ عليهم تولوا وهم يقولون: نحن لا نقصد النفاق المخرج من الملة المعبر عنه فقهياً ب( النفاق الاعتقادي)، وإنما نقصد به ذاك المعبر عنه ب(النفاق العملي)، ولكنك إذا أرجعت البصر كرتين في السياق الذي يضطرهم إلى رمي مخالفيهم بالنفاق، ستجد أن ادعاءهم لا يصمد لمعيار الحقيقة الشرعية. ذلك أن السياق الذي ينبزون به مخالفيهم ب(النفاق) سياق سياسي بحت، وليس سياق تعليم أو توجيه أو تحذير. ولو كان كذلك، لكانوا رحيمين بالناس، خائفين عليهم من الوقوع في النفاق، باذلين النصح لهم برفق ولين! إن النفاق في الاصطلاح الشرعي ليُعبِّر عن(إظهار الإسلام وإبطان الكفر). والنفاق في القرآن الكريم إنما جاء ضمن هذا الاصطلاح فحسب، قال تعالى:" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِين". ولقد فسرها إمام المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري بقوله" أجمع جميع أهل التأويل على أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل النفاق، وأن هذه الصفة صفتهم". وفي ذلك يقول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في(الإيمان الأوسط):" والمنافق الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، هو أن يُظهر الإسلام ويُبطن غيره، سواء أبطن دينا من الأديان، كدين اليهود والنصارى أو غيرهم، أو كان معطِّلاً جاحداً للصانع والمعاد والأعمال الصالحة". ووفقاً للتعريف القرآني للمنافق، بصفته ذلك الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام، فإن رمي أحد من الناس بأنه منافق، إنما هو تحصيل لما في الصدور، وهو مما اختص الله بعلمه. ولقد يزعم المتساهلون في التكفير، أنهم إذ يرمون مخالفيهم بالنفاق، فإنهم إنما ينطلقون مما حدده الله من صفات المنافقين في القرآن، ولا شك أن ذلك تأل على الله تعالى، إذ إن الصفات التي جاءت في القرآن للمنافقين عامة، يعلم الله وحده كيف، ومن تُستنزل بحقهم، أو أخبر بهم رسولَه صلى الله عليه وسلم في حياته. من جهة أخرى، فإن تقسيم النفاق إلى نفاق اعتقادي ونفاق عملي، أو إلى نفاق أكبر ونفاق أصغر، لم يرد في القرآن ولا في السنة النبوية المتواترة، وإنما هو اجتهاد من الفقهاء، ناتج من إشكال تبدى لهم من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح" آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان"، وفي حديث عبدالله بن عمر، أربع، منهن، بالإضافة إلى الثلاث السابقة، :وإذا خاصم فجر. وهو خلاف مشهور بينهم، ما ينفي أن يكون محل إجماع. ولقد نقل الإمام النووي رحمه الله في (شرح صحيح مسلم) هذا الخلاف عند شرحه لهذا الحديث فقال:" وقد نقل الترمذي معناه عن العلماء مطلقا فقال: إنما معنى هذا عند أهل العلم نفاق العمل". لكن النووي يعود فينقل معنى آخر لهذا الحديث، يؤكد على أن الصفات التي وردت في الحديث إنما هي علامات للمنافقين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بصفتهم منافقين نفاقاً مخرجاً من الملة، بقوله" وقال جماعة من العلماء:المراد به المنافقون الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثوا بإيمانهم وكذبوا، وأؤتمنوا على دينهم فخانوا، ووعدوا في أمر الدين ونصْره فأخلفوا، وفجروا في خصوماتهم، وهذا قول سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ورجع إليه الحسن البصري بعد أن كان على خلافه، وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر، وروياه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال القاضي عياض: وإليه مال كثير من أئمتنا". بل إن النووي ينقل عن الخطابي أن هذا الحديث "ورد في رجل بعينه منافق، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يواجههم بصريح القول، فيقول: فلان منافق، وإنما كان يشير إشارة، كقوله صلى الله عليه وسلم ما بال أقوام يفعلون كذا؟". وبفحص القرائن التي تحف بالسياقات التي يطلق فيها بعض بني جلدتنا صفة النفاق على مخالفيهم، نجد أنهم إنما يقصدون النفاق الأكبر المخرج من الملة. ففي حرب إسرائيل الأخيرة على غزة ، كان أولئك الرهط يطلقون تهمة النفاق على كل من يمس(حماس) بطائف من النقد. وهنا، لا يُتصور أنهم يعنون النفاق الأصغر، أو النفاق العملي، ذلك أنه لا علاقة بانتقاد حماس أو حتى بمعاداتها، بتلك الأوصاف التي وردت في الحديث، وإنما هم يفكرون، عندما رموا مخالفيهم بالنفاق، في الناقض الثامن من نواقض الإسلام(مظاهرة المشركين ومساعدتهم على المسلمين)، بما يعني أنهم يعنون بالنفاق: النفاق الأكبر. وبعض أولئك الرهط يعمد إلى مقولات لبعض الفقهاء، فينزلها في من يختلف معهم، حتى يستطيع أن يصمهم بالنفاق، رغم اختلاف السياقات الزمنية والمكانية: والظرفية عموماً. وهكذا، فقد ينزلون بمخالفيهم ما حكاه ابن تيمية رحمه الله في(مجموع الفتاوى) من صور النفاق الأكبر من أن" يظهر تكذيب الرسول أو جحود بعض ما جاء به، أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه،أو المسرّة بانخفاض دينه، أو المساءة بظهور دينه، ونحو ذلك"، أو مثل ما حكاه الشيخ محمد بن عبدالوهاب من صور للنفاق من" بغض الرسول، أو بغض ما جاء به، أو المسرة بانخفاض دين الرسول، أو الكراهية بانتصار دين الرسول". وهكذا، فإن مجرد انتقاد أي من مخالفيهم لحماس مثلاً، أو للإخوان، أو لشخصية فكرية أو سياسية معينة، فهو قابل لأن يتصف بتلك الصفات التي قالها شيخا الإسلام، دون استحضار لقاعدة" كل يؤخذ من قوله ويرد"، ودون استحضار للسياقات التي أدلى من خلالها الإمامان بتلك المقولات!