إن النفاق الذي تحدث عنه القرآن الكريم، والذي عالجه الإسلام، بقبول ظاهر أصحابه، وعدم محاسبتهم على ما يبطنون، ما لم يعلنوا حرباً على الإسلام وأهله، أو ينضموا إلى اعدائه في حال عدوانهم عليه، وهذا النفاق هو الذي يرشدنا ربنا عز وجل إلى بعض مظاهره فيقول في محكم كتابه(وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً)، فليس لهم يقين بإيمان، ولا هم يصدقون رسول الله، وبين الله لنا موقفهم فيقول عز من قائل حكيم:(وإذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك رسول الله والله يشهد أن المنافقين لكاذبون)، فهم يظهرون الايمان ويبطنون الكفر، ولعل القرآن ارشد إلى بعض ما كان يعلم به نفاقهم، فقد كان قسم منهم يمتنعون من الخروج مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى الجهاد، ويعتذرون عن ذلك بشتى الاعذار، وبعضهم قد اضمر حباً لغير الله، واجبروا حينما انتصر الإسلام وقويت شوكته أن يعلنوا إسلامهم ولم يؤمنوا قط، فهم دوماً يريدون التحاكم لغير الله، فالله يقول:(يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به)، وهم يصدون عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ويستكبرون ويتحالفون سراً مع أعداء الاسلام، كل هذا وقع من المنافقين في عصر سيدي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأكثر منه، وعرف بأبي هو وأمي بعض أعيانهم، وقد اخبر صاحبه الجليل حذيفة ببعض اسمائهم في غزوة تبوك، وقد أرادوا الغدر برسول الله - عليه الصلاة والسلام، بحل حزام ناقته ليسقط عنها إذا ركبها، ولكنه ايضًا لم يعلم آخرين منهم فالله عز وجل يقول:(وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم) وهذا هو أصل النفاق وحقيقته، والذي اسماه المتأخرون من علمائنا النفاق الاعتقادي، وهو حتماً لا يظهر إلا في حال قوة الاسلام وانتشار حكمه، ولن تجده في الزمان الذي يتخلى فيه كثير من المسلمين عن دينهم، ولا يلتزمون بأحكامه، فلا حاجة لأحد حينئذ أن يواري عدم ايمانه، وهو آمن على نفسه، وهذا اللون من النفاق إن وجد في عصرنا تحت صور من القسر على الإيمان بالاسلام في حالات نادرة، وجب أن يعامل المنافق بما عامل به سيدي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - المنافقين في عصره، بأن يقبل منهم ظاهرهم، ويترك باطنهم لله عز وجل يحاسبهم عليه، إن لم يضروا بالاسلام وأهله ضرراً بيناً، وتقوم عليه البينة، فرسول الله عليه الصلاة والسلام لم يقتل من المنافقين أحداً، بل رفض قتلهم، ودعا لهم واستغفر حتى نهي عن ذلك، ألم تقرأ قوله تعالى:(ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون)، وأما ما يشير اليه حديث سيدي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم الذي يقول فيه (اربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن، كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا أؤتمن خان، واذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، واذا خاصم فجر)، والذي اتخذه البعض دليلاً على تقسيم النفاق إلى قسمين، نفاق اعتقادي، وآخر عملي، فإنما هو حث على ترك سلوك اشتهر به مَنْ ضعف إيمانه، فالحديث لا ينفي الايمان عن من ارتكب شيئاً من هذه القاذورات، خيانة الأمانة ، والكذب ، والغدر، والفجور عند الخصومة ، فماهي سوى معاصٍ كبيرة يحذر منها فهي لا تليق بالمؤمن، ويخشى على من اجتمعت فيه ان تنقله من الايمان إلى النفاق، الذي هو كفر ناقل عن الملة، ولكنا في هذا العصر نبتلى بمن قصر فهمه وساء ظنه بالمسلمين، ليصم بالنفاق كل من يختلف معه على رأي، ترى هذا واضحاً جلياً في كتابات بعض المتعجلين، الذين يظنون ألا علم صحيح إلا ما يقولون، والذين لا يحسنون ظناً بمسلم عالماً كان أم عامياً، بل لعلهم لا يحسنون الظن إلا بانفسهم، وقد ينحسر حسن الظن عند أحدهم حتى لا يتجاوزه إلى غيره، واحسان الظن بالمؤمنين احدى خصال الايمان، وسوء الظن بهم من علامات قلة العلم والدين، والنصيحة الخالصة التي تهدي إلى هؤلاء ألا توبقوا انفسكم فتهلكوا، بسبب سوء فهمكم لمسائل الدين عقيدة وشريعة، واندفاعكم غير المحمود لإخراج الناس من الدين بسبب ذلك، والاصل في مَنْ يدعو إلى الله ان يسعى جاهداً لإدخالهم في حظيرة الاسلام لا اخراجهم منها، بشرح محاسنه لهم واقناعهم به، لا بالتسلط عليهم عبر وصفهم بالنفاق مرة، وبالشرك اخرى، وبالالحاد ثالثة، وقد يضيفون الى ذلك الاتهام بالبدعة والفسق، وكأن الله قد اوكل اليهم ان يدخلوا من شاءوا الى دائرة الاسلام وان يخرجوا منها من شاءوا، ولم يعلم هؤلاء ان لهم سلفاً صنعوا مثل صنيعهم فانزلوا آيات انزلت في المشركين على المسلمين، ففشلوا في مسعاهم وبقي العلم الشرعي محفوظاً في مصادره لم ينله شغبهم بسوء، فهلا أدركوا هذا فكفوا. هذا هو ما نرجو والله ولي التوفيق، ص ب 35485 جدة 21488 فاكس 6407043 [email protected]