إن الخطاب الصحوي الغوغائي– بوصفه نتاجاً – ينتسب إلى منتج يمتلك منظومة فكرية وسلوكية متشابكة ومتداخلة، تتسم – سواء من حيث الخلفيات أو التجليات – برؤية أحادية قاطعة؛ تفترض نفسها صحيح الإسلام. ولهذا فهي تعالج الأحداث والأفكار وفق هذه الرؤية الدوغمائية مَن يتأمل لغة هذا الخطاب الصحوي الغوغائي الجماهيري، يدرك أنها لغة بالغة التعقيد؛ بقدر ما هي لغة بالغة السذاجة حد التهريج!. وطبعا، مصدر هذا التعقيد فيها ليس صعوبة لغة الخطاب المصطلحية، أو مراوغته، أو تماهيه مع خطابات نجهل مكوناتها وامتدادات مصادرها في نسق المشروعية العامة، وإنما مصدره أن القراءة الكاشفة التي تعيد ''تنسيب'' المسؤولية الثقافية (وربما غير الثقافية) هي التي تتناول الخطاب من خلال أبعاده الثلاثة: المنتِج، والمنتَج، والمستهلك/ المستهدف بالخطاب. وهذا ما لا يمكن القيام به – بدرجة مُرضِية من حيث صراحتها – في سياقاتنا السوسيولوجية الراهنة، إذ سيحتك هذا العمل – حتما – بتلك الدرجة العالية من الحساسية تجاه النقد الاجتماعي الذي يحاول مقاربة ما له علاقة بالذات من قريب أو بعيد. وإذا كان هذا التحسس النقدي يحول بيننا وبين التناول الذي نطمح إليه، فإننا سنحاول الإمساك – كنوع من المقاربة الحذرة – بما نعتبره قاسماً مشتركاً ما بين الإنتاج الوعظي ذي الطابع الغوغائي، والاستهلاك الجماهيري، هذا القاسم الذي نأمل أن يكشف عن الأبعاد اللامرئية، الكامنة وراء كثير من أزماتنا السلوكية التي تطفح على سطح بياناتنا الخطابية الوعظية، وممارساتنا العملية، فما نملك تجاهها إلا الذهول والاستغراب من بدائياتها المستفزة لكل مواضعات الفعل الحضاري، ومن لا عقلانيتها المعادية – بصراحة – لكل ما هو عقلاني. إننا لا نستغرب صدور أنواع من السلوك – بما فيها السلوك اللغوي – اللاحضاري، تفرزها شرائح اجتماعية مأزومة مع واقعها، شرائح مازالت تستعصي – بل وتتأبى – على الانصهار في مجتمع متجانس (والذي هو أهم شروط قيام المجتمعات ذات الفاعلية الإنسانية)، ولكننا نستغرب أن تنتج هذه الشرائح الاجتماعية المأزومة مع واقعها خطاباً بائساً تستجيب لها الذائقة الجماهيرية العامة التي تحدد – في النهاية، وبصورة غير مباشرة – كثيراً من الخيارات. إن هذا الخطاب الصحوي الغوغائي– بوصفه نتاجاً – ينتسب إلى منتج يمتلك منظومة فكرية وسلوكية متشابكة ومتداخلة، تتسم – سواء من حيث الخلفيات أو التجليات – برؤية أحادية قاطعة؛ تفترض نفسها صحيح الإسلام. ولهذا فهي تعالج الأحداث والأفكار وفق هذه الرؤية الدوغمائية التي تفترض اللاخلاف فيما هو محل خلاف، وتريد توحيد الرؤى – قسراً – في رؤية الأبعاد اللامرئية لكل حدث أو فكرة تنداح في الساحة من وقت لآخر. ومن ثم فهي تريد الاتفاق على ما يستحيل – في الواقع – الاتفاق عليه، بل وعلى ما يُعد تتعدد الرؤى فيه أمراً طبيعياً. وهذا – بلا شك – تشويه للحاضر، وإغلاق للمستقبل؛ فضلاً عن كونه تزييفاً للماضي. إبان لحظات إنتاح الخطاب؛ من الضروري أن نعي أهمية احتضان الاختلاف في الخطاب المنتَج، وذلك بالانفتاح على الرؤى المتعددة، بوصفها مصدر قوة وثراء؛ لا مصدر ضعف ومشاغبة واستعصاء. لا يجوز إلغاء، ولا تجاهل، حضور الآخر في الواقع ولا في الثقافة؛ فتجاهله أو إلغاؤه لا يعني أنه انتفى حقيقة من الواقع، وإنما يعني – فقط – أننا أنتجنا خطاباً مزيفاً عن الثقافة وعن الواقع. لا بد أن يكون خطابنا الثقافي هو صورتنا الحقيقية، لا المزيفة. لا بد أن نتسامح مع بعض مكونات الصورة التي لا تروق لنا؛ هذا، إذا أردنا لثقافتنا، ومن ثم لمجتمعاتنا – على المدى القريب والبعيد – أن تحمل في خلاياها مظاهر صحية تعد بغد أفضل، لا مظاهر مرضية تُنبئ بمستقبل مُعتم، يُكرّس – إذا تفاءلنا ! – بؤسنا الثقافي والمجتمعي، مما سيترتب عليه إعادة إنتاج أزماتنا الراهنة التي ننوء بها؛ هذا إن لم يعد – بسبب طبيعته (أي الخطاب المُكرس) الماضوية المتجذرة فيه – إنتاج إشكاليات الماضي التي أنهكت مخلفاتها قوانا، وجففت رواسبها عروق الإبداع في مخيلاتنا، وألقت بنا خارج أزمنتنا، حتى أصبحنا وكأننا متحف، يتفرج العالم من خلالها على ما كان يحدث قبل عشرات القرون. وإذا كانت هذه ملامح الشرائح الاجتماعية المنتجة للخطاب التقليدي الصحوي الرائج جماهيرياً، فإن ذات الخطاب يمارس مغالطات مفضوحة، ما كانت لتفعل فعلها لولا التركيبة المتواضعة لعقلية المتلقي ( = مستهلك الخطاب)، إذ يوهم هذا الخطاب الغوغائي – للجاهل ومن في حكمه – بالإجرائية العلمية، بينما المقدمات تنافر النتائج، والأسباب تتنكر لمسبباتها، والأدلة تتسع للعموم، ووجه الاستدلال غائب أو عائم، والتأويل الذي يجري الخطاب به – المطروح – هو التاويل الوحيد (الوحيد المعلن)، مع تغييب كامل للرؤى المغايرة أيا كان مصدرها؛ ما دامت لا تخدم غائية الخطاب. وحتى ما كان منها راجحاً؛ يجري تقديم المرجوح على الراجح، في ظل مراوغة استدلالية تنطق – لمن كان له قلب – بما وراءها من محاولات لاغتيال العقل، أو ما تبقى منه. وإذا كانت هذه المغالطات المشار إليها تتصدر خطاباً يطرح نفسه بوصفه المناوئ – على مستوى الطرح المباشر - لمثل هذه الممارسات، فليس غريباً عليه أن يجيش التداعيات النفسية الناتجة عن وجود تماس – لو كان وهماً – بين نص وفكرة، بل قد يشحن الخطاب بالنصوص مع انعدام الحاجة الاستدلالية، لا لشيء إلا لأجل التعبئة النفسية التي تحقق أهدافها عن طريق تكثيف النصوص للإيهام بالتطابق – ولو ظاهرياً- مع الأصل الشرعي. إن هذا المخاطَب (= المتلقي) هو الإشكالية الأولى والأخطر في هذا الخطاب، مع أن الفاعل – كما يبدو لغير المتأمل – هو مظنة الإشكال؛ لأنه مهما تمددت دائرة الشريحة المنتجة (= القائل) لهذا الخطاب، فإنها – وبالنسبة إلى الجماهير المستهلكة – تبقى شرائح من مجتمع، وليست مجتمعاً بكامله. وهذا ما يجعل من قراءة المستهلك (= الجماهير) أكثر فعالية لمرتاد الخطاب. إن المستهلك ما كان ليهضم هذا النوع من الخطاب؛ لو لم يكن وافق منه شهية مفتوحة، ولبى أعمق حاجاته النفسية والفكرية، بل وأحس أنه يقول له ما يريد – هو – قوله. ومن هنا يعتبر هذا المستهلك (= الجماهير) منتِجاً للخطاب على حال من الأحوال؛ لأنه لو استطاع لقال ما قيل له!. وهنا تكمن الدلالات المحزنة لرواج هذا الخطاب العبثي/ التخلفي، إذ تصبح الممارسات اللاّحضارية ممارسات أمة، لا ممارسات فئة قد تخطئ وقد تصيب. إنها (غوغائية الاستهلاك الجماهيري) التي تكشف عن غوغائية كامنة في عمق التفكير. وإنه لمن المخيب للآمال أننا لا نزال نتقدم – واثقين! – لحل قضايانا، صغيرها وكبيرها بمثل هذا النمط من التفكير الهمجي المشبع بالتصورات البدائية المتوحشة. إن الجماهير المستهلكة لهذا الخطاب الغوغائي ما هي إلا جماهير متدثرة بعباءة السكون، مطمئنة إلى رقادها الطويل، لا يوقظها منه إلا المنعطفات الحادة التي تجبرها على بذل شيء من الانتباه، شيء من الانتباه الذي لم تتعود عليه، والذي ليس لديها استعداد – وربما اقتدار ذاتي – للتعامل معه في مدى زمني طويل. ولهذا تجدها تتسم بالاضطراب عندما تضطر إلى تلك المنعطفات، وتأخذها المفاجآت بعيداً عن مساراتها السكونية، فتكون العشوائية الحائرة هي الموجهة لها، حتى في أخطر أزماتها. ولأن رهاب المفاجأة يستبد بهذه الجماهير التقليدية/ الصحوية؛ استمرأت – ومن ثم حبّذت – أن يُفكّر عنها ولا تفكر، أو - على أحسن الأحوال – أن تتقدم بحلولها الجاهزة؛ لأنها ارتضت الثبات على ما تألف، هروباً من مشقة البحث عن حلول مستحدثة بقوة الإبداع للطارئ والمستجد. ولهذا نجدها قد صاغت ذواتها المتناغمة في امتثالية صارمة؛ لتكون قادرة على التعامل مع الثبات؛ إذ لم تعد قادرة على التعامل مع التطور. ولتحقيق ذلك بصورة أكبر؛ غيّبت الفردية، ونفتها من سياقاتها؛ كيلا تفجعها الفردية بين وقت وآخر بممارسات تكتيكية خارج نطاق التوقع. وهذا ما جعلها تطالب باتحاد العملية التكتيكية بين أفرادها، مع أن (الفردية) من طبيعة السلوك الفردي الناتج عن التفرد في الرؤية، والابتكار في الممارسة. من هنا ندرك أن هذا الخطاب الصحوي الجماهيري – قائلاً، ومقولاً، ومقولاً له – ينطوي على تأزمات عميقة، تأزمات بنيوية تشل قدرته على الفاعلية الإيجابية التي يدعيها في معلن/ صريح الخطاب. إنه خطاب مأزوم منذ لحظة إنتاجة إلى آخر لحظات الاستهلاك. وهو بين هذا وذاك معطوب بكل العناصر التي تدعم ثنائية: التخلف والتطرف. إننا لو تأملنا سماته العامة؛ لوجدنا الغالب عليه: الضيق بالمخالف، والانزعاج المرضي من النقد، وعدم الاعتراف بحق الآخر، وغياب التوجهات المستقبلية الواعية، وازدراء الفردية، واللاواقعية الزمانية والمكانية، والانطلاق من الأبعاد الأحادية، والعاطفية المرضية، وتهميش الموضوعية العلمية في التناول، وضمور الروح الابتكارية، وهجر أدبيات الحوار، ولزوم وما لا يلزم حيال التنوع في المصادر الثقافية، والارتياب في دعوات المراجعة، و – أخيراً – محاكمة مقولات الآخر بفرضيات قراءات الأنا. وكل هذه عيوب تتفاعل جدلياً - من ثم تتنامى وتتعقد – بين منتجي هذا الخطاب الغوغائي وبين مستهلكه، هؤلاء المستهلكين البؤساء الذين يعيدون تدويره بكل ما فيه، ومن ثمّ؛ فهم يعيدون إنتاجه بَشَراً وأفكاراً على أكثر من صعيد.